أصوات من تشيرنوبل
(2)
سفيتلانا ألكسيفيتش
كورس الجنود
تلقَّت فصيلتنا الإنذار. ولم يحدث قبل أن
نصل إلى محطة قطارات بيلوروسكايا في موسكو أن أخبرونا بالوجهة التي نحن متجهون
إليها. بدأ رجل، أعتقد أنه من ليننجراد، في الاحتجاج. قالوا له إنهم سيقتادونه إلى
محاكمة عسكرية. قال القائد ذلك أمام الجنود بالضبط "ستذهبون إلى السجن أو
سنطلق النار عليكم" كانت لديّ مشاعر أخرى، النقيض التام لذلك الرجل. كنت أريد
أن أفعل شيئا بطوليا. ربما كان ذلك شغل عيال. ولكن كان هناك آخرون مثلي. كان الأمر
مرعبا ولكنه طريف، لسبب ما.
المهم، أدخلونا، ومضوا بنا إلى محطة الطاقة.
أعطونا سترات بيضاء وقبعات بيضاء. وأقنعة جراحة من الشاش. نظفنا المنطقة. لم تستطع
الروبوتات أن تفعل ذلك، أنظمتها اختلت. ولكننا عملنا. وكنا فخورين بذلك.
*
ركبنا ـ كانت هناك لافتة تقول: "منطقة
خارج الحدود". قابلنا تلك الكلاب والقطط المجنونة على الطريق. كانت تصرفاتها
غريبة: لم تميِّز أننا بشر، كانت تهرب منا. لم أفهم ماذا ألمّ بها إلى أن أمرونا
بإطلاق الرصاص عليها ... كانت البيوت كلها مغلقة بالشمع الأحمر، وآلات المزارع
مهجورة. كان منظرا مثيرا. لم يكن هناك أحد، ليس إلا نحن والشرطة ودورياتها. كنت
تدخل البيت فتجد صورا على الجدران، لكنك لا تجد أصحابها. ووثائق ملقاة: بطاقات
عضوية في الكومسومول [العصبة اللينينية الشيوعية الوحدوية للشباب]، هويات من أنواع
أخرى، جوائز.
ساق الناس سياراتهم إلى المبنى، إلى المفاعل
الحقيقي. كانوا يريدون أن يلتقطوا صورا لأنفسهم هناك، ليعرضوها على أهلهم في
مدنهم. كانوا مفزوعين، ولكن فضولهم شديد: ما هذا الذي حدث؟ أنا عن نفسي لم أذهب،
فلديّ زوجة شابة، ولم أشأ أن أخاطر، ولكن الشباب التقطوا بضع صور ومضوا. وعلى إثر
ذلك ...
*
هناك هذا البيت المهجور. مغلق. هناك قط جالس
على أسفل الشباك. أفكر: لا بد أنه تمثال قط. أقترب، وإذا به قط حقيقي. أكل كل زهور
البيت. كيف دخل؟ أم تراهم تركوه بالداخل؟
هناك ملاحظة على الباب: "أيها الشخص
الطيب، نرجو ألا تبحث هنا عن أشياء قيمة. فلم تكن لدينا قط أشياء قيمة. وسوف
نرجع". رأيت لوافت أخرى على بيوت أخرى بإيحاءات مختلفة: "بيتنا العزيز،
سامحنا". كان الناس يودِّعون بيوتهم كما لو كانت أشخاصا. أو كانوا يكتبون:
"نرحل في الصباح" أو "نرحل في الليل" ويسجِّلون الوقت
والتاريخ. كانت هناك ملاحظات كتبت على ورق من دفاتر مدرسية: "لا تضربوا القط،
وإلا ستأكل الجرذان كل شيء". وبخطِّ طفل: "لا تقتلوا زولكا. زولكا قطة
طيبة".
*
ذهبت. لم أكن مضطرا للذهاب. تطوّعت. كنت
أبحث عن وسام؟ كنت أرغب في مكاسب؟ هراء. لم أكن بحاجة إلى أي شيء لنفسي. شقة،
سيارة، ماذا أيضا؟ آه فعلا، كوخ ريفي. كانت لدي كل تلك الأشياء. ولكن كان في الأمر
فتنة ذكورية. الرجال كانوا ذاهبين برجولة للقيام بذلك الشيء المهم. والآخرون؟
ليختبئوا في ثياب النساء إن شاؤوا. كان هناك رجال لهم زوجات حبليات، وآخرون لديهم
صغار، وثالث كانت لديه حروق. كلهم سبّوا لأنفسهم وجاؤوا على أية حال.
رجعنا إلى البيوت. خلعت ثيابي التي كنت
لبستها وألأقيتها في مخرج القمامة. أعطيت
قبعتي لابني الصغير. كان يريدها بشدة. وظل يرتديها طول الوقت. وبعد سنتين كان
تشخيص حالته ورما في المخ ... لك أن تكتبي البقية بنفسك. لا أريد أن أتكلم أكثر مما
تكلمت.
*
في التاسع من مايو، يوم النصر، جاء جنرال.
أوقوفونا صفوفا، هنأونا بالإجازة. وجد أحدنا الشجاعة فسأل: "لماذا لا
يخبروننا بمستويات الإشعاع؟ ما حجم الجرعات التي نتعرّض لها؟" رجل واحد فقط.
حسن، بعدما رحل الجنرال، استدعاه العميد، وصبّ عليه نار الجحيم. "هذا تحريض!
أنت مثير للشغب!" وبعد أيام قليلة سلمونا أقنعة غاز، لكن لم يستعملها أحد.
وأرونا مقاييس جايجر بضع مرات، ولكنهم لم يعطوها لنا قط.
قبل أن نرجع إلى بيوتنا استدعينا للحديث مع
رجل من الكيه جي بي. كان مقنعا للغاية وهو يطلب منا ألا نتكلم مع أي أحد، في أي
مكان، عما رأيناه. كنت لما رجعت من أفغانستان أعرف أنني نجوت. أما هنا فالوضع كان
النقيض: فالقتل يحدث بعد أن ترجع إلى بيتك.
*
وصلنا إلى المكان. تسلمنا معداتنا.
"مجرد حادثة" ذلك ما قاله لنا النقيب "وقعت منذ فترة طويلة للغاية.
ثلاثة شهور. لم تعد خطيرة" قال الرقيب "تمام. فقط اغسلوا أيديكم قبل الأكل".
ورجعت إلى البيت. وكنت أذهب للرقص. أقابل
فتاة تعجبني فأقول "تعالي نتعرّف".
"لماذا؟ أنت تشيرنوبلي الآن. سأخاف أن
أنجب منك".
*
في السادس والعشرين من ابريل كل عام نتلاقى،
الرجال الذين ذهبوا إلى هناك. نتذكر كيف كانت الأيام. كنت جنديا في حرب، كنت
ضروريا. نسينا السوءات ولم نتذكّر إلا ذلك.
نتذكر أنهم ما كانوا لينجوا مما جرى إلا بنا. نظامنا، وهو نظام عسكري في جوهره،
يبرع في العمل في حالات الطوارئ. أنت حر أخيرا هناك، وضروري. الحرية! وفي هذه
اللحظات يبيِّن الروسي كم هو عظيم. كم هو متفرد. لن نكون أبدا هولنديين أو ألمان.
ولن يكون لدينا أبدا أسفلت مستو ومروج مهندمة. ولكن سيكون هناك دائما وفرة من
الأبطال.
هم أطلقوا النداء، وأنا ذهبت. كان لا بد أن أذهب! كنت
عضوا في الحزب. سيروا أيها الشيوعيون! ذلك ما كان. كنت ضابط شرطة ـ ملازما أول.
وعدوني بنجمة أخرى. كان ذلك في يونيو
1987. كان اللصوص قد انتهوا من النهب بالفعل. أغلقنا الشبابيك والأبواب. كانت
المتاجر كلها قد نهبت، والدقيق والسكر على الأرض، والحلوى. المعلبات في كل مكان.
قرية واحدة كانت قد أخليت، ثم على بعد خمسة كيلومترات أو عشرة، قرية تالية كما هي.
جاؤوا بكل شيء من القرية التي تم إخلاؤها. ذلك ما جرى. نحن نحرس المكان، ويأتي
الرئيس السابق للقرية ومعه بعض رجال القرية، تم توطينهم في مكان آخر، لديهم بيوت
جديدة، ورجعوا ليحصدوا المحاصيل ويبذروا المحصول الجديد. نقلوا بالات القش. وجدنا
آلات البذر والدراجات النارية وسط البالات. وبدأت المقايضة: يعطونك زجاجة فودكا
منزلية الصنع فتعطيهم الإذن بنقل تليفزيون.
كنا نبيع آلات البذر والجرارات أو نقايضها. زجاجة أو عشر زجاجات. لم يكن أحد مهتما
بالنقود. [يضحك] كان الأمر أشبه بالشيوعية. كانت هناك ضريبة على كل شيء: علبة غاز
صغيرة ـ مقابل نصف لتر فودكا، معطف فراء ـ لتران، والدراجات النارية ـ تتراوح.
نقلوا المنطقة كلها إلى هنا. يمكنك أن تجدها في الأسواق، ومحلات الرهونات، وأكواخ
الأهالي. الشيء الوحيد الذي بقي وراء الأسلاك هو الأرض. والمقابر. وصحتنا.
وإيماننا. إو إيماني أنا.
أعطوني وساما وألف روبل.
*
أتذكر القرى الخاوية وقد جُنَّت الخنازير فيها ومضت تهيم
في كل مكان. ضباط الكولخوز وجنوده، والملصقات الباهتة: نحن نقدم خبز الوطن! المجد
للشعب السوفييتي العامل! منجزات الشعب خالدة".
*
أخذت زوجتي الطفل ورحلت. تلك القحبة! ولكنني لن أشنق
نفسي. ولن أرمي نفسي من شباك الطابق السابع. عندما رجعت من هناك للمرة الأولى
بحقيبة مليئة بالنقود، كان ذلك جيدا. لم تخف مني. [يبدأ في الضحك].
حتى ألف شعاع جاما
لا يمنع الطاهي الروسي من عيش أيامه.
تلك القحبة! تخاف مني. أخذت الطفل. [بجدية مفاجئة] كان
الجنود يعملون بجوار المفاعل. كنت أسوق لهم السيارة لحضور نوباتهم وأرجع. كنت أعلق
حول عنقي مقياسا للإشعاع، وكان الجميع كذلك. بعد نوباتهم، كنت أقلّهم إلى الإدارة
الأولى، وتلك كانت إدارة سرية. فيسجلون هناك قراءاتنا، ويدونون أشياء على
بطاقاتنا، ولكن عدد وحدات الأشعة الذي كنا نتعرض له، كان يبقى سرا عسكريا. أبناء
القحاب! ويمر بعض الوقت وفجأة يقولون: "كفى. لا يمكنك أن تأخذ المزيد".
تلك هي المعلومات الطبية الوحيدة التي كانوا يقدمونها لك. حتى وأنا راحل لم
يخبروني بمدى ما تعرضت له. أبناء قحاب! والآن يتقاتلون على السلطة. على الحقائب
الوزارية. وعندهم انتخابات. تريدين نكتة أخرى؟ بعد تشيرنوبل يمكنك أن تأكلي أي شيء
تريدينه، ولكن عليك أن تدفني خراءك.
*
مات صديقي. تضخم، صار في بدانة البرميل. وجاري الذي كان
هناك هو الآخر، كان يعمل على رافعة. اسودّ، كالفحم، ونحل، لدرجة أنه كان يرتدي
ملابس أطفال. أما أنا فلا أعرف كيف سأموت. ما أعرفه يقينا هو هذا: أن المرء لا
يعيش طويل بمثل تشخيصي. ولكنني أرجو أن أستشعر الموت حينما يحدث. مثل رصاصة في
الرأس. لقد ذهب أيضا إلى أفغانستان. كان الأمر هناك أيسر. كانوا يطلقون عليك
الرصاص وحسب.
*
أركادي فيلين
كنت أفكر في شيء
آخر حينها. ستجدين هذا غريبا، ولكنني كنت أنفصل عن زوجتي.
وفجأة جاؤوا، وسلّموني استدعاء، وقالوا إن "هناك
حربا بالأسفل". بدا وكأنه العام 1937. كانوا يأتون في الليل ليأخذوك من سريرك
الدافئ. ثم لم يعد ذلك يفلح: فقد بدأت زوجات الرجال يمتنعن عن الرد على من يطرقون
الأبواب، أو يكذبن ويقلن إن أزواجهن في العمل لا في البيت، أو في إجازة، أو في
الكوخ عند آبائهم. وكان الجنود يحاولون تسليمهن الاستدعاء، فترفض النساء تسلّمه.
فمضوا يختطفون الناس من العمل والشوارع وفي استراحات الغداء في مقاصف المصانع.
ولكنني بحلول ذلك الوقت كنت شبه مجنون. كانت زوجتي
تخونني، وكل ما عدا ذلك لم تكن له أهمية. ركبت سيارتهم. الرجال الذين أتوا إليّ
كانوا يرتدون ملابس مدنية، ولكن سلوكهم كان عسكريا، كانوا يسيرون عن يميني ويساري،
متخوفين بوضوح من احتمال هروبي. لكن زوجتي كانت قد تركتني، ولم أكن أملك أن أفكر
في شيء آخر. حاولت مرات أن أقتل نفسي. لقد ذهبنا معا إلى نفس الحضانة، ونفس
المدرسة. [يصمت. يدخن]
قلت لك؟ ما من شيء بطولي هنا، ما من شيء يليق بقلم كاتب.
كانت ترادودني أفكار من قبيل أننا لسنا في حرب، فلماذا أخاطر بنفسي بينما شخص آخر
ينام مع زوجتي؟ لماذا أنا مرة أخرى، وليس هو؟ وبصدق، لم أر أي أبطال هناك. رأيت
حمقى، لا يبالون بحياتهم، وكان بي شخصيا نصيبي الكافي من الجنون، لكنه لم يكن
لازما. لديّ أيضا أوسمة وجوائز، ولكن ذلك لأنني لم أكن خائفا من الموت. لم أكن
أبالي! كان الأمر أقرب إلى مهرب. دفنوني تحت الأمجاد. والحكومة هي التي دفعت
الأتعاب.
كنت تجد نفسك فورا في تلك الأرض الخرافية، حيث التقت القيامة
بالعصر الحجري. كنا نعيش في الغابة، في خيام، على بعد عشرين كيلومتر من المفاعل.
كنا بين الخامسة والعشرين والأربعين، منا من كانوا يحملون شهادات جامعية، أو منا
أصحاب شهادات التعليم الفني. فمثلا، أنا معلم تاريخ. بدلا من الرشاشات أعطونا
جرافات. كنا ندفن كومات قمامة وحدائق. كنا نرتدي قفازات، وأجهزة تنفس، وملابس
طبية. والشمس تلهبنا. كنا نظهر في أفنية الناس كالشياطين. لم يفهموا لماذا ندفن
حدائقهم، ونقتلع ثومهم وكرنبهم وهو يبدو طبيعيا كالثوم وكالكرنب. ترشم العجائز
الصليب على صدورهن ويسألن: "ما هذا يا أولاد؟ هل نحن في نهاية العالم؟"
ربما يكفي هذا؟ أعرف أن الفضول يغلبك، وكل من لم يذهبوا
إلى هناك يغلبهم الفضول. ولكنه كان عالما وناسا، كهذا بالضبط. مستحيلة الحياة في
خوف مستمر، لا يستطيع أحد أن يعيش هذه الحياة، ومن ثم لا يمر إلا وقت طويل حتى
تستأنف الحياة الطبيعية ...
كان الرجال يشربون الفودكا. ويلعبون الورق، ويحاولون نيل
الفتيات، وينجبون الأطفال. كانوا يتكلمون كثيرا عن النقود. ولكننا لم نذهب إلى
هناك من أجل النقود. أو هكذا كان حال أغلب الناس. كان الرجال يعملون لأن على المرء
أن يعمل. كانوا يطلبون منا أن نعمل. لا يطرح أحد سؤالا. كان بعض الناس يرجون من
عملهم ذلك أن يحصلوا على وظائف أفضل. البعض سرق وسلب. كان الناس يطمحون إلى
المزايا الموعودة: شقة بغير انتظار، وخروج من الثكنات، وإدخال أبنائهم الحضانات،
وسيارة. وفزع شخص، رفض الخروج من الخيمة، نام في كيسه البلاستيكي. جبان! طرد من
الحزب. كان يصرخ: "أريد أن أعيش".
كان هناك كل أنواع البشر. وكان يقال لهم، لا، نحن بحاجة
إلى سائقين، وسباكين، ورجال إطفاء، ولكنهم ظلوا يتوافدون برغم ذلك. آلاف المتطوعين
يحرسون المتاجر بالليل. كانت هناك وحدات طلابية، وجامعو تبرعات للضحايا. مئات
الناس كانوا يتبرعون بالدم ونخاع العظام.
كانوا يحضرون الجرائد كل يوم. وكنت أكتفي بالعناوين:
تشيرنوبل .. أرض الإنجازات، الانتصار على المفاعل، الحياة تستمر". كان لدينا
مسؤولون سياسيون، يعقدون مناقشات سياسية معنا. كان يقال لنا إن علينا أن ننتصر.
على من؟ الذرة؟ الفيزياء؟ الكون؟ النصر ليس حدثا بالنسبة لنا، بل عملية. الحياة
جهاد. غلبة. ومن هنا حبنا للفيضانات والحرائق وغيرها من الكوارث. نحن بحاجة إلى
فرصة لاستعراض "شجاعتنا وبطولتنا".
ضابطنا السياسي يقرأ أخبار الجريدة عن "وعينا
السياسي الرفيع وتنظيمنا الدقيق" عن حقيقة أنه في غضون أربعة أيام فقط من
الكارثة كان العلم الأحمر يرفرف فوق المفاعل الرابع. واحترق. في غضون شهر كان
الإشعاع قد أتى عليه. فوضعوا علما آخر. وفي غضون شهر وضعوا علما ثالثا. كنت أحاول
أن أتخيل ما يشعر به الجنود الذين يصعدون إلى السطح لتغيير ذلك العلم. تلك كانت
مهمات انتحارية. بم تسمين هذا؟ وثنية سوفييتية؟ تضحية بالذات؟ لكن المسألة أنك لو
كنت أعطيتني أنا العلم وقتها وطلبت مني أن أصعد هناك لفعلت. لماذا؟ لا أعرف. لم
أكن خائفا وقتها من الموت. زوجتي لم تبعث لي ولو رسالة. على مدار ستة أشهر لم تبعث
ولو رسالة واحدة. [يتوقف] تريدين أن تسمعي نكتة. سجين يهرب من السجن، يجري إلى
منطقة الثلاثين كيلو متر في تشيرنويل. يقبضون عليه، يأتون به إلى مقاييس جايجر.
يجدون أنه "يتوهج"، لا يستطيعون إرجاعه إلى السجن، لا يستطيعون اقتياده
إلى المستشفى، لا يستطيعون أن يضعوه وسط بشر.
لماذا لا تضحكين؟
*
نادجدا بتروفنا فايجوسكايا ـ المبعدة من
بلدة برايات
حدث في وقت متأخر من ليلة الجمعة. في صباح ذلك اليوم لم
يكن أحد يرتاب في أي شيء. أرسلت ابني إلى المدرسة، وزوجي رجع من عند الحلاق. كنت
أعدّ الغداء حينما رجع زوجي؟ "هناك حريق ما في المحطة الذرية. يقولون إننا لا
ينبغي أن نطفئ المذياع". لم يكن حريقا عاديا، كان متألقا بطريقة ما. كان
جميلا. لم أر شيئا مثله حتى في الأفلام. في ذلك المساء خرج الجميع إلى الشرفات،
ومن لم يكن لديهم شرفات ذهبوا إلى منازل
أصدقائهم. كنا في الطابق التاسع، فكانت تتوفر لنا رؤية عظيمة. خرج الناس بأبنائهم،
وكانوا يقولون لهم "انظروا! تذكروا!". وناس كانوا يعملون في المفاعل ـ
مهندسون وعمال وفيزيائيون. وقفوا في الغبار الأسود، يتكلمون، ويتنفسون، ويتساءلون
عما جرى. جاء الناس من كل مكان في سياراتهم وعلى دراجاتهم النارية ليلقوا نظرة. لم
نكن نعرف أن الموت يمكن أن يكون بهذا الجمال.
لم أنم ليلا. في الثامنة من صباح ذلك اليوم كان هناك عسكريون
في الشوارع يرتدون أقنعة ضد الغاز. حينما رأيناهم في الشوارع، بكل تلك المركبات
العسكرية، لم نشعر بالفزع، بل على العكس، لقد هدأنا. فبما أن الجيش جاء لمساعدتنا، سيكون كل شيء على
ما يرام. لم نكن نفهم آنذاك أن الذرة السلمية هذه قادرة على القتل، وأن الإنسان لا
حول له أمام قوانين الفيزياء.
كانوا طوال اليوم في المذياع يطلبون من الناس الاستعداد
للإخلاء. أبعدونا لمدة ثلاثة أيام، غسلوا فيها كل شيء، وفحصوا كل شيء. قيل
للتلاميذ إن عليهم أن يأخذوا معهم كتبهم المدرسية. وضع زوجي وثائقنا وصور زفافنا
في حقيبته. الشيء الوحيد الذي أخذته كان منديلا تحسبا لسوء الطقس.
جزء من نص نشر في باريس رفيو عدد 172 شتاء 2004 مترجما من الروسية إلى
الإنجليزية بقلم كيث جيسين.
نشر الجزء الأول من ترجمتنا أمس في
جريدة عمان بمناسبة فوز الكاتبة بنوبل في الأدب 2015 ويستكمل في الأيام التالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق