في السادس من ابريل قبل عشرين عاما، بدأت
الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا. في ذلك الوقت، قلل كثير من الصحفيين الغربيين من هولها فاعتبروها
"حربا عرقية"، ومن هؤلاء "بارتولوماوس جريل"، المراسل الحالي
لدير شبيجل، الذي ينظر الآن إلى الماضي في خجل.
سجن الماضي
زيارة أخرى إلى رواندا
بارتولوماوس جريل
كان ابريل من عام 1994، وأصيبت برينسيس بحمى
الحماس التي كانت منتشرة آنذاك في شتى أرجاء جنوب أفريقيا. برينسيس في ذلك الوقت
هي مديرة منزلنا في جوهانسبرج، الممتلئة الرزينة الظريفة، اسمها الحقيقي هو "نوليزوي
مينو" لكنها غيَّرته ليسهل على البيض أن يتذكروه.
كانت أولى الانتخابات الحرة في البلد مُجدوَلة
في نهاية ذلك الشهر، انتخابات يشارك فيها جميع المواطنين، السود والبيض، للمرة
الأولى. وتصدرت نهاية الأبارتيد عناوين الصحف في العالم، كان حدثا عالميا شارك في تغطيته
أكثر من أربعمائة صحفي. كنت واحدا منهم.
في السادس عشر من ابريل، أي قبل أحد عشر
يوما من "أُمِّ جميع الانتخابات"، خرجت فرقةٌ صحفية بمرافقة نيلسن
مانديلا، الرئيس القادم، إلى دائرة أوملازي الانتخابية بالقرب من ديربان. وكانت
تلك من مرات ظهوره الأخيرة قبل الانتخابات، فاحتشد أكثر من خمسين ألف لمسيرة في
الهواء الطلق، رقصوا فيها، وغنوا، واحتفلوا بكل طريقة بحرية المناضل كما لو كانوا
يحتفلون بالمسيح المخلص.
كانت الهيمنة البيضاء تدنو من نهايتها،
والحلم الأفريقي يتحقق. وكان ذلك خبر الأخبار في ذلك اليوم، وسبب ذلك أن أحدا لم يكن
يعرف ـ ولا أنا ـ بهول الكابوس الذي يجري في الوقت نفسه في وسط القارة. كنت في ذلك
الوقت أعمل لأسبوعية "دي تسايت" الألمانية، وكنت كغيري أكتب تغطيات من
على البعد، لا يمكن غفرانها، ولا يمكنني حتى بعد مضي عشرين عاما أن أتخلص من
إحساسي بالعار منها.
أولى الأخبار الواردة من رواندا (وتقع على
بعد أربعة آلاف كيلو متر إلى الشمال) كانت مربكة: أنباء عن مواجهات عسكرية، وقلاقل
دموية، ومشاجرات عرقية، ونزاع بين إخوة. ونشرت شبيجل خبرا في عددها 16/1994 يتكلم
عن "فوضى تغذي نفسها". واعتبرت حالة رواندا حالة نمطية لصراع أفريقي.
"رواندا؟" هكذا تساءل صحفي زميل من بريطانيا. "آه، إنهم التوتسي
والهوتو يهشمون رءوس بعضهم البعض. هذه حرب قبلية لا تنتهي".
نتورو داخل النصب التذكاري في مورامبي
|
والحق أن "الحرب القبلية" كانت
إبادة جماعية، هي الأبشع منذ قتل النازي لليهود أثناء الهولوكوست و"حقول
القتل" في كمبوديا.
"تركونا وحدنا. العالم كله كان ينظر
إلى الناحية الأخرى" هكذا يقول "جوناثان نتورو"، 34 عاما، شاب نحيل
دقيق الملامح، أنيق الثياب، يرتدي سترة جلدية وجينز من بيربيري ونظارة شمسية. يروق
له أن يبدو أنيقا وهو يزور الجحيم الذي أمكنه أن يهرب منه.
لغز حتى اليوم
واقفا أعلى تل في مورامبي، وهيمنطقة سكنية
مبعثرة البيوت في جنوب رواندا، يستعيد نتورو كيف وصل هو وأسرته وماشيتهم الخمسة
إلى هناك. يصف كيفية قيامهم، هم وعشرة آلاف من البشر المرعوبين، بإقامة معسكر
طوارئ في موقع بناء مدرسة ثانوية بالقرب من ثلاثة خلاطات أسمنت صدأت في أماكنها
ولم تزل فيه حتى اليوم. كانت الحكومة قد وعدت بحماية اللاجئين، وكان اللاجئون لا
يزالون يأملون في الفرار. ونتورو وقتها كان في الرابعة عشرة من عمره.
في الثامنة والثلث من مساء السادس من ابريل،
تم إسقاط طائرة الرئيس الرواندي "جوفينال هاباريمانا" وهي تقترب من مطار
العاصمة كيجالي. ولا تزال ملابسات الحادثة لغزا إلى اليوم. ولكن الحادث الذي يبدو
اغتيالا كان علامة على بداية الإبادة الجماعية. ففي الليلة نفسها، قام الحرس
الرئاسي وميليشيات الإنترهاموي ("المقاتلون معا" بلغة كيناريواندا
الرواندية الرسمية) بحملة قتل عنيفة في شوارع كيجالي. واستولت مجموعة من الهوتو
المتعصبين على السلطة فقررت إزالة أقلية التوتسي عن وجه الأرض، وكانت تلك الأقلية
تمثل عشرة في المائة من السكان على الأقل. واكتسح العنف البلد كلها في غضون أسبوع.
يتذكر نتورو قائلا "في البداية لم يشأ
أبي أن يصدق. فلما احترقت ثلاث قرى في منطقتنا ومات لأبي ثلاثة إخوة، رحلنا قاصدين
مورامبي". ووصلوا قرابة الرابعة عصرا إلى ما ظنوا أنه مكان آمن.
في العاشرة والنصف من مساء ذلك اليوم، اتصل الفريق
"روميو دالاير" من كيجالي بمركز العمليات في نيويورك. وكان ذلك الضابط
الكندي هو رئيس قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في رواندا. كان التفويض
الممنوح له يخول له الحفاظ على السلام الهش والانتقال الديمقراطي الذي كان يجري
التفاوض عليه منذ اتفاقات آروشا 1993.
كان روميو دالاير يوجِّه منذ شهور إنذارات
واضحة حول تصاعد العنف في رواندا. وفي يناير، كان قد أرسل برقية مشفرة كتب فيها عن
مخابئ سرية للأسلحة، وقوائم للاستهداف، وفرق للقتل. وفجأة تحول أسوأ سيناريو توقعه
حافظ السلام إلى واقع أمام عينيه. طلب روميو دالاير دعما فوريا وقال إنه يمكن
الحيلولة دون وقوع كارثة بقوة قوامها أربعة آلاف وتفويض قوي. ولكن رؤساءه في إدارة
عمليات حفظ السلام ـ التي كان يرأسها وقتذاك أمين عام الأمم المتحدة القادم "كوفي
عنان" ـ أهملوا طلبه، رافضين أن يصدقوا وقوع جريمة ضد الإنسانية في رواندا.
هولوكوست أفريقية
على مدار المائة يوم التالية، قام
نظام الهوتو الحاكم وأعوانه بقتل ثمانمائة ألف من التوتسي والهوتو المعتدلين، أي
بمعدل خمسة قتلى في الدقيقة. وربما
لم يحدث على مدار تاريخ الإنسانية أن قام هذه العدد الرهيب من القتلة بقتل هذا
العدد الرهيب من القتلى في هذه الفترة الزمنية الوجيزة. ولا عجب أن يصف
روميو دالاير ذلك الذي جرى بالهولوكوست الأفريقية.
اندلع
الجحيم في مورامبي في الثالثة عصر الحادي والعشرين من ابريل. يقول نتورو إن الجنود
راحوا بغتة يطلقون النار عشوائيا على الجموع ويرمون القنابل اليدوية، ولم تمض ساعة
حتى كانت الميليشيات تشق طريقها من التلال المحيطة إلى المعسكر حيث بدأت ذبح
اللاجئين بالخناجر والسكاكين والسيوف والمناجل والبلطات.
في تلك
الفوضى تمزقت أسرة نتورو. انضم جوناثان إلى مجموعة من الشباب الذين كانوا يحاولون
ما استطاعوا الدفاع عن أنفسهم بإلقاء الآجر من موقع البناء على القتلة. ولكن
القتلة كانوا يفوقونهم عددا بما لا يقاس. وبما يشبه المعجزة استطاع نحو مائة لاجئ،
بينهم نتورو، أن يهربوا من وسط إطلاق النار. فجروا إلى الوادي وسبحوا في نهر
مورامبي.
يشير
نتورو إلى بستان موز مقابل للتل كان قد اختبأ فيه في ساعات الصباح الأولى. يحاول
ألا يبين كم هو منزعج من تلك الذكريات.
ومع ذلك،
يبدو مذهولا، إيماءاته حادة، وكلامه سريع، ومضطرب بين الحين والآخر. يقول "نحن نخاف أن نتكلم في هذا".
ويحكي عن ليالي الأرق التي تنتابه حينما تعاوده أشباح الماضي فتستولي عليه، وعن
المحاولات الفاشلة لعلاجه من اضطراب ما بعد الأزمة.
أربعون
ألفا على الأقل ماتوا في مورامبي في مشهد من أقسى مشاهد المذابح وأبشعها. لا يعرف
أحد بالضبط حصيلة القتلى، فلا يزال يجري العثور على هياكل عظمية في المنطقة حتى
اليوم. "أحسنتم العمل يا شباب" كذلك قال حاكم مقاطعة جيكونجورو وهو يشكر
القتلة.
أولى
الصور التليفزيونية التي ظهرت في العالم في تلك الأيام الأولى بلغت من الوحشية
والمفارقة للمألوف أن أشار إليها المعلقون باعتبارها "شذوذا عن الطبيعة"
و"جنونا إجراميا" و"مرض القتل الذي أصاب الناس"، وكأنما
الإبادة الجماعية حلت برواندا حلول فيروس.
في مقر الصليب الأحمر بجينيف نصب يحوي صور الأطفال الذين فقدوا أسرهم
في ثنايا الإبادة الجماعية
|
الصحافة
العالمية الساذجة
نحن الآن
نعرف أن الإبادة الجماعية التي وقعت لم تكن نتيجة قوة فوضوية قديمة، بل تمت بيد
نخبة حديثة متعلمة انتفعت من جميع وسائل الدولة المنظمة، من جيش وشرطة ومخابرات
وميلشيات وبيروقراطية حكومية وإعلام. لم يكن القتلة شياطين، بل أتباع نظام إجرامي.
وكانوا ملتزمين بمنطق بسيط: إذا نحن لم نمسحهم، أي التوتسي، عن وجه الأرض، فسوف
يدمروننا نحن، أي الهوتو.
أقيم نصب
تذكاري وطني في مورامبي، حيث تركت المباني المدرسية كما هي لم تكتمل. وأولى
اللوافت المعلوماتية في الموقع تقول إن "وسائل الإعلام لم تصف ما حدث
بالإبادة الجماعية، بل بالحرب العرقية"، ذلك أن الروانديين نسوا كم كانت
الصحافة العالمية ساذجة في ذلك الوقت.
لم تكن
لأعمال القتل المفرطة علاقة على الإطلاق بـ "الحرب القبلية". فالهوتو
والتوتسي كانتا تشتركان في اللغة والعادات والثقافة منذ قرون. وكان ثمة زواج بين
أبناء القبيلتين، ولم يكن بوسع أكثر الروانديين أن يميزوا الهوتو من التوسي. أما
أسباب المأساة فيمكن العثور عليها في منطقة أخرى: الضغط المتولد عن كثافة السكان
الفائقة في بلد زراعي صغير، والصراع على الموارد النادرة، وسياسات الفصل الاستعمارية
التي كانت بمثابة الوقود لنار العنصرية الكامنة بين الجماعتين العرقيتين، وشره
النخبة الحاكمة إلى السلطة.
تنبعث
رائحة نتن مقززة من أبواب الفصول الدراسية المفتوحة في مورامبي. مئات الجثث ترقد
في الجير على منصات خشبية بالداخل، بشر مبتورو الأطراف، مقطوعو الرؤوس، مسحوقو
الجماجم، أو ذوو رؤوس تخترقها الرماح، ونساء مزقت سيقانهن أثناء اغتصابهن، ووجوه
تجمد الرعب على قسماتها.
يتجمد
الزمن
ربما لا
يكون في العالم كله نصب تذكاري يعرض وحشية البشر بمثل هذا السفور. يرفع نتورو
نظارته الرايبان على جبهته. يكف عن الكلام ويقاوم الدموع.
ولا
يسترد صوته من جديد إلا حينما يعود إلى الخارج ويخطو على ممر خرساني أوشك يكسوه
العشب. يقول "تحت هذا المكان مقبرة جماعية كان الفرنسيون يلعبون الكرة
الطائرة فوقها". الفرنسيون الذين أقاموا صداقة قوية مع نظام الهوتو، وأمدوهم
بالسلاح، وكانوا مستشارين لجيشهم ومدربين لميلشياتهم. والفرنسيون أيضا أرسلوا
"بعثة إنقاذ" إلى رواندا، باسم العملية الفيروزية، ولكن بعدما كانت
العربدة القاتلة قد انتهت. وأقامت هذه القوات ممرات آمنة عبرها القتلة مندسين وسط
مئات آلاف اللاجئين الهوتو فأمكنهم الهرب إلى بوروندي وزائير ـ أو جمهورية الكونغو
الديمقراطية حاليا.
يلوح لنا
بعض الصبية بأطواق يدوية الصنع يلعبون بها ونحن نسوق مبتعدين عن النصب. يوقل نوترو
"هذه العادية مخيفة. أحيانا يدهشني أن العشب لا يزال ينمو هنا، أن الحياة لم
تزل مستمرة".
يريد الذهاب
إلى جاتابا التي ضرب أبوه وأخوه فيها حتى الموت. هما أيضا استطاعا الهرب من
مورامبي، ولكنهما هربا إلى القرية الواقعة على التل المجاور. نصادف رجلا على دراجة
نارية يحمل وراءه حزمة سيوف جديدة، تأتلق نصالها في وهج الشمس.
كان
نتورو يعتزم أن يتكلم مع زوجة الرجل الذي قتل أسرته. ولكنه فقد تصميمه فيما نسوق
ببطء أمام متجرها. يقول "لا، ليس اليوم. المزاج غريب". والحق أن المزاج
عدائي، هذا ما بدا في حملقة الناس في ميدان القرية إلى سيارتنا العابرة. لم يشأ
نتورو أن نخرج من السيارة ونحاورهم. يقول إن إجاباتهم جميعا مكتوبة على وجوههم
المستريبة: ها هو جاء بصحبة الصحفيين يقلب الحكايات القديمة التي آن الأوان لنسيانها. سيقولون لقد حدث ذلك كله قبل عقدين من الزمن، وما كان
كان.
ولكن ما
كان يأبى الرحيل، ليس بالنسبة لنتورو، وليس في جاتابا. كانت الجثث مطروحة على
الأرض في مقابل منضدة في السوق مبلطة بالسيراميك الأبيض تباع عليها قطع من لحم
الماعز والتيوس. يقول نتورو إن أربعة رجال ضربوا أباه وأخاه حتى الموت. كان كبيرهم
تاجرا موسرا، هو الآن في السجن، وزوجته قائمة بتجارته. في جاتابا يعيش الجناة
والضحايا جنبا إلى جنب، حيث أغلبية السكان من الهوتو والأقلية من التوتسي.
هذه هي
العدالة
يحاول
البعض كتمان ما جرى قبل عشرين عاما، بينما لا يملك البعض أن ينسى. أعلى الناس
أصواتا في ما يتعلق بمسألة التوتسي/الهوتو هم أكثر الناس تعرضا للاتهام بـ
"التفرقة"، وهم الذين يتعرضون لعقوبات قاسية بسبب تعليقاتهم المحرضة على
الفتنة. فحكومة رواندا التسلطية التي أصدرت الأمر بالتصالح لا يزال على رأسها
الرئيس بول كاجامي وهو التوتسي الذي استولى جيشه على السلطة عام 1994 وأنهى
الإبادة الجماعية. رواندا اليوم تمثل قصة نجاح اقتصادية في بلد دكتاتوري من بلاد
العالم الثالث يتمثل تجربة الصين وسنغافورة. وفي مثل هذه الأماكن كل معارض للنظام معرض
للتحرش، والإسكات لو لزم الأمر.
في رحلة
العودة إلى كيجالي، نرى المساجين يعملون في حقول الأرز في قاع الوادي. يرتدي السجناء
الجنائيون العاديون زيا موحدا ورديا فيبدون من على البعد أشبه بسرب من طيور
البشروش. ووسطهم بعض ممن يلبسون البرتقالي الساطع هم الذي أدينوا بارتكاب جرائم
الإبادة الجماعية. يقول نتورو "لا بد أن يرى الجميع أنهم ’مبيدون’. لا بد أن
يدفعوا ثمن جرائمهم. هذه هي العدالة".
نشأ في
عائلة كبيرة من أربعة عشر فردا لم ينج منها غيره وأمه وشقيقتان وشقيق. وكثيرا ما
كان يعرض عليه أن يعمل مرشدا سياحيا في مورامبي لكنه يرفض. أقام من حول نفسه سورا
عاليا، لكنه يتداعى كلما يرجع إلى أرض الموت هذه. والاستراتيجية التي يتبعها لقهر
الماضي هي كتمه، والتغطية عليه بالعمل الجاد والنجاح المهني. درس إدارة المال
والأعمال في جامعة بوتاري ويحصل على راتب جيد من وظيفته في منظمة للإغاثة. يعيش
وحده في كيجالي. ولا يريد أن يتم اختزاله في "أباروكوتسي" أي الناجي
حبيس الذكريات.
دانسيل ناييرابازونجو: "فقري لا يزال يذكرني بالمذبحة" |
ومن
الروانديين أبرياء وأسرى، ومن هؤلاء "دانسيل ناييرابازونجو" الحبيسة منذ
عشرين عاما. تقول إن الزمن توقف بالنسبة لها عند ابريل من عام 1994، ففي كل يوم
يذكّرها فقرها بالمذبحة التي وقعت في كنيسة نتاراما على مقربة من كوخها. فقدت
عشرين من عائلتها وأقاربها، وخمسا من أبنائها، وزوجها الذي ضرب بالسيوف حتى الموت
أمام مذبح الكنيسة.
تعيش هذه
المرأة البالغة من العمر واحدا وستين عاما مع ابنها وحفيديها في بيت يتألف من
غرفتين صغيرتين معتمتين. ما من مناضد في البيت أو مقاعد، ما من كهرباء أو مياه
جارية، ليس ثمة غير كشك في حديقة الخضروات حول البيت. رجعت ناييرابازونجو من
العمل، وقد اتسخت ثياب البالية. وعملها هو أن تنقل الحجارة في موقع بناء، في مقابل
أجرة يومية تقل عن يورو واحد.
بقعة
كبيرة داكنة
نتاراما
في مقاطعة بوجيسترا لا تعدو شريطا من الأرض تتناثر فيه المستنقعات ويستعمره
البعوض، وإليه لاذ الكثير من التوتسي فرارا من المذبحة الكبيرة الأولى في أواخر
الخمسينيات، أو سيقوا إليه سوقا. في ابريل 1994، وفي موسم الإيتومبا ـ أو المطر
الكثيف ـ كان مقدرا التخلص منهم إلى الأبد كأنهم حشرات. وكان الهوتو المسكونون
بالكراهية يسمونهم الـ إنياينزي: أي الصراصير.
فر آلاف
التوتسي من المناطق المحيطة إلى كنيسة نتاراما راجين أن يجدوا الحماية في ذلك
المكان المقدس، إذ كان كثير من المعتدين من الكاثوليك المخلصين الذين يدأبون ـ شأن
ضحاياهم ـ على حضور قداس الأحد.
مضت
"دانسيل ناييرابازونجو" وأسرتها، شأن غيرهم، ينشدون الحماية في الكنيسة.
ولكن في الثامنة من مساء الخامس عشر من ابريل، أحاطت الميلشيات بالمبنى، وأحدثوا
ثقوبا في الجدران ومنها ألقوا القنابل اليدوية، ثم اندفعوا داخلين إلى الكنيسة
فقتلوا من بقي فيها على قيد الحياة.
بقعة
كبيرة داكنة ـ من دم أبناء الرب القتلى ـ لم تزل ماثلة على الجدار الأمامي للمبنى
المجاور الذي كان في يوم من الأيام يستضيف مدرسة الأحد. ثمة عصا مستندة إلى الجدار
تقول ناييرابازونجو إنهم "كانوا في هذا الموضع يخوزقون النساء بأسياخ
يدخلونها في فروجهم فلا يخرجونها إلى من رؤوسهم". صوتها محايد معلوماتي،
ولولا عينيها لما بدا أنها تشعر بأي شيء على الإطلاق. ففي تينك العينين محفور هول
ذلك اليوم لا ينمحي.
لماذا؟
لماذا؟ تكرر السؤال وتكرره. لماذا؟ ليس لديها تفسير لأعمال الهمجية. كيف يفسر
المرء قتل الأطباء مرضاهم في أسرتهم في المستشفيات، ذبح المعلمين تلاميذهم، صب
الراهبات الجاز على أبناء إبرشيتهن وإضرامهن النار فيهم؟
"تابعوا!
المقابر لم تمتلئ بعد!" كذلك كان يصيح المذيعون في محطة "راديو مايلز
كولينز" الوطنية في الحشود اللانهائية. صار القتل واجبا مدنيا، على كل من نشأ
على إطاعة السلطات أن يخضع له. ظلوا يقتلون، مدفوعين بالخوف والكراهية وشهوة الدم،
وبالطمع في ما يملكه الضحايا.
من نصب مورامبي التذكاري
|
إحساس
مقبض
ناييرابازونجو،
البالغة من العمر في ذلك الوقت واحدا وأربعين عاما، اختبأت تحت أكوام الجث، وهي
الحبلي بابنها إريك الذي ولد في يونيو 1994، فكان ابنا للمذبحة، أطلقت عليه أمه اسما
ثانيا هو روكايموبيكاييكا أو "الذي نجا من الأهوال".
أين كان
الرب في تلك الأيام؟ "كان موجودا، وإلا لما نجونا" تقول ناييرابازونجو،
وتسأل "أنتم أين كنتم؟؟ لماذا لم تساعدونا؟"
هذه النوعية من الأسئلة لم تزل
تشعرني بالعار إلى اليوم. لم تكن الأمم المتحدة وحدها، أو الغرب والدول الأفريقية
الأخرى، هي التي فشلت، بل والصحفيون أيضا، مثلي أنا. كنا نجري وراء القصة الكبيرة
في جنوب أفريقيا، غير منتبهين إلى رواندا أو مكتفين بالكليشيهات عن البلد.
في الخامس عشر من ابريل، وبينما
كانت مذبحة نتاراما في ذروتها، نشرت "دي تسايت" تحليلي الأول المكتوب من
على البعد. حكيت فيه حواديت عن "الحرب القبلية المخيفة" في قلب أفريقيا
حيث الجميع في قتال مع الجميع. Bellum omnium contra omnes .. دائما اللاتينية ملاذ من لا يعرف الكثير عما يجري.
في النهاية، كتبت أقول إن التدخل
الأجنبي قد يكون غير مجد. فكان ذلك التقرير أحوى تقرير كتبته في حياته المهنية بأخطاء
لا تغتفر.
في يوم الأحد الرابع والعشرين من
ابريل سنة 1994، كانت كنيسة نتاراما الكاثوليكية صامتة صمت مقبرة. فالجثث ملقاة
بين الأرائك، وبشاعة المنظر تستعصي على أي وصف. أكوام من الجثث في فناء الكنيسة،
وفي الأكمة المحيطة وفي مستنقعات الوادي في الأسفل.
وفي يوم الأحد ذلك نفسه، كان محفل
كنيسة ريجينا موندي ـ كبرى الكنائس الكاثقوليكية في سويتو ـ يصدح بالغناء. كان
قداس الصباح قد بدأ، وبقيت ثلاثة أيام قبل الانتخابات، والبهجة تستولي على الناس.
مضوا يغنون النشيد الوطني "يا رب احرس افريقيا"، وهم يحتفلون بالحياة
وبالحرية وبالمستقبل. ونحن الصحفيين مستسلمون لتلك البهجة، ومنا من يشارك المحفل
في الغناء.
كان في السقف ثقوب من رصاصات
أطلقها الجنود البيض على المقاومين السود تحتهم. ولكن عنف الأبارتيد كان في تلك
اللحظة قد بهت إلى ذكرى غامضة. وفي ساعات السعادة تلك، كان عنف رواندا لم يدخل بعد
نطاق الوعي، ولا حتى إحساسا مقبضا بشرٍّ ما في الأفق.
الترجمة من الألمانية إلى الإنجليزية لكرستوفر سلطان
نشر الموضوع أصلا في دير شبيجل ونشرت الترجمة اليوم في شرفات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق