عقل النصاب
يوديجيت باتاتشارجي
في ليلة من ليالي صيف 2011، خرج بروفيسير طويل القامة، تجاوز الأربعين من العمر، يدعى "ديديريك شتيبل" Diederik Stapel من منزله الحجري الأنيق في مدينة تيلبورج الهولندية لزيارة صديق له في آخر الشارع. كان الوقت قد قارب منتصف الليل، لكن زميله "مارسيل زيلينبرج" كان قد اتصل به وبعث إليه رسالة نصية في مساء ذلك اليوم مؤكدا أنه يريد أن يراه لأمر مهم. كان الاثنان يعرفان أحدهما الآخر منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، حينما كانا طالبي دكتوراه في جامعة أمستردام، وقد أصبح الاثنان عالمي نفس في جامعة تيلبورج. في 2011، أصبح شتيبل عميد الكلية الدراسات السلوكية والاجتماعية في الجامعة وزيلينبرج رئيسا لقسم علم النفس الاجتماعي. وكان شتيبل وزوجته مارسيل قد وقفا بجوار زيلنبرج أثناء إجراءات طلاقه العصيبة قبل أعوام قليلة. وبينما كان شتيبل يقترب من باب بيت زميله، تساءل عما إذا كان يواجه مشكلات مع صاحبته الجديدة.
زيلنبرج
رجل ربعة حليق الرأس. اقتاد شتيبل إلى غرفة المعيشة. سأله شتيبل وهو يجلس على
الأريكة "خيرا؟". قال زيلنبرج إن طالبي دراسات عليا وجَّها اتهاما. وبدأت
عيناه تغرورقان بالدموع. "يشكَّان أنك كنت تزيِّف الأبحاث".
كان
شتيبل نجما أكاديميا في هولندا وفي الخارج، وكاتبا للعديد من الدراسات المتعلقة
بالمواقف والسلوكيات البشرية. وكان في ربيع ذلك العام قد نشر دراسة اشتهرت للغاية
في مجلة ساينس عن تجربة أجريت في محطة قطارات أوترخت ويتبين منها أن البيئة
المليئة بالقمامة تميل إلى إثارة النزعات العنصرية لدى الأفراد. وقبل نشرها بأيام
كان قد لفت المزيد من الاهتمام الإعلامي بدراسة تشير إلى أن أكل الناس للحم يجعلهم
أنانيين وأقل اجتماعية.
لقد
كان أعداؤه يستهدفونه بسبب التغيرات التي بدأها منذ توليه العمادة. ذلك ما دفع به
شتيبل، مستشهدا بمثل هولندي يقول إن الشجر العالي أكثر تعرضا للريح . ولما تحدّاه
زيلنبرج بالتفاصيل، مطالبا إياه أن يبين السبب في تطابق معلومات وأرقام معينة في
دراسات مختلفة، قال شتيبل إنه سيكون أحرص في المستقبل. ولما
ازداد زيلنبرج ضغطا، ازداد شتيبل قلقا.
وأخيرا
قال زيلنبرج "أنا مضطر أن أسألك عما إذا كنت تفبرك البيانات".
فرد
شتيبل "لا، هذا سخف. بالطبع لا".
في
عطلة نهاية ذلك الأسبوع، نقل زيلنبرجر جميع الاتهامات إلى رئيس الجامعة، وهو أستاذ
قانون يدعى "فيليب إيجلاندر" كان كثيرا ما يلعب التنس مع شتيبل. وبعد
اجتماع وجيز يوم الأحد، وجَّه إيجلاندر الدعوة لشتيبل لزيارته في منزله صباح يوم
الثلاثاء. في غرفة المعيشة بمنزل إيجلاندر، مضى شتيبل يترافع عن نفسه بما وصفه
إيجلاندر بالدفاع الحماسي مبرزا أعماله كعميد للكلية، واصفا منهجه البحثي بالمفارق
للمعتاد. واستمر الحوار نحو خمس ساعات، بعدها قام إيجلاندر باقتياد شتيبل في أدب
إلى باب المنزل مراعيا أن يوضح له أنه غير مقتنع ببراءته.
في
اليوم نفسه، اتجه شتيبل إلى جامعة جرونينجن التي تقع على بعد ثلاث ساعات تقريبا،
والتي كان يعمل فيها أستاذا فيما بين 2000 و2006.
كان حرمها الجامعي أحد الأماكن التي يزعم أنه يجمع منها بيانات
العديد من دراساته، وفي معرض دفاعه عن نفسه كان بحاجة إلى تفاصيل من هناك. ولكنه
حينما وصل إليها عصر ذلك اليوم، بدا له المكان شديد الاختلاف عما كان يبدو له قبل
خمس سنوات. وبدأ ينتابه اليأس حينما أدرك أنه لم يعد يعرف المباني التي كانت قائمة
أثناء إجرائه دراساته. ثم رأى مبنى عرفه من هيكله، مبنى مركز الكمبيوتر. حدث نفسه
قائلا "من هنا كانت البداية"، وهنا أجرى تجاربه مع متطوعين من طلبة
المرحلة الجامعية. "سينجح الأمر".
في
طريق رجوعه إلى تيلبورج، توقف شتيبل في محطة قطارات أوتريخت. كان ذلك هو موقع
دراسته المتعلقة بالعنصرية وارتباطها بالبيئة القذرة، والتي يفترض أنه أجراها
أثناء إضراب عمال المحطة. في التجربة الموصوفة في مقالة مجلة ساينس، طولب متطوعون
من البيض بملء استبيان وهم جلوس في صف يضم ستة مقاعد، ويكون الصف خاليا إلا المقعد
الأول الذي يجلس عليه شخص أسود أو أبيض. زعم شتيبل وشريكه في كتابة الدراسة أن
المتطوعين البيض كانوا يميلون إلى الجلوس بعيدا عن الشخص الأسود عندما تكون
القمامة متناثرة في المكان المحيط بالمقاعد. راح شتيبل ينظر حوله في ساعة الذروة
والناس يتدفقون إلى الأرصفة ومنها، فلم يتسن له العثور على موقع تتوفر فيه الشروط
الموصوفة في تجربته.
"لا
يا ديديريك، هذا سخف". هكذا حدث نفسه. "ليس أمامك إلا أن تستسلم".
بعدما
رجع إلى البيت في تلك الليلة، اعترف لزوجته. وبعد أسبوع أوقفته الجامعة عن العمل
وعقدت مؤتمرا صحفيا أعلنت فيه الخدعة العلمية. وصار ذلك هو الخبر الأهم في هولندا
وظلت عناوينه تتصدر الأخبار على مدار شهور. وبين عشية وضحاها، انتقل شتيبل من ذروة
الأستاذ الجامعي المرموق، إلى حضيض النصاب الأكبر في الوسط الأكاديمي.
***
التقيت
شتيبل للمرة الأولى في صيف عام 2012، بعد قرابة عام من طرده من تيلبورج. كنت قد
قرأت عن خدعته في أماكن عديدة، من بينها صفحات مجلة ساينس، التي أعمل فيها كاتبا
متخصصا في الغالب في تغطية أخبار الفضاء والفلك. ولم أكن قبل اطلاعي على الأخبار
قد قرأت دراسة شتيبل المنشورة في ساينس، فكتّاب الأخبار في هذه المجلة لا علاقة
لهم بالمقالات البحثية التي تنشرها.
عندما
التقيت أنا وشتيبل على الغداء في أنتويرب، على بعد قرابة خمسين ميلا من تيلبورج،
كانت ثلاث لجان تحقيق في الجامعات الثلاث التي سبق له العمل فيها وهي أمستردام
وجرونينجن وتيلبورج تجمع دراساته وتفحصها لتحديد الزائف منها. لم يكن غرض هذا
التدقيق تنظيف السجل العلمي فقط، بل التحقق مما إذا كان شركاء شتيبل في دراساته ـ
وهم أكثر من عشرين طالبا أشرف على رسائلهم المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، يشاركونه
المسئولية. وكان قد تبين بالفعل أن كثيرا من أطروحات الدكتوراه التي أشرف عليها قد
أقيمت على أساس بياناته المفبركة.
مباشرة
أعرب شتيبل عما بدا ندما عميقا بسبب ما ألحقه بطلبته. قال وهو يشير إلى الأرض
"لقد سقطت عن عرشي، أنا الآن على الأرض. أنا منضم إلى حلقة علاج نفسي
أسبوعية. بت أكره نفسي". في أصيل ذلك اليوم، ظل يشير في حوارنا إلى نفسه
مرارا وتكرارا بالشخص الطويل، الساحر، الوسيم، لا عن غطرسة فيما بدا لي، ولكنها الرغبة الجارفة في التركيز على ما فيه من نواح إيجابية غير زائفة.
قد تلقي خدعة شتيبل الضوء على الخيانة العلمية، ولكن الخدعة
العلمية غير جديدة بأية حال. ذلك أن معرض الكذابين والمخادعين الأكاديميين حافل
بمشاهير كانوا يحظون بمكانات مرموقة. فالعالم الكوري الجنوبي المتخصص في أبحاث
الخلايا الجذعية "هوانج وو سوك" أذهل العلماء في مجاله قبل سنوات قليلة
عندما تبين أن أغلب الأعمال التي اشتهر بها إن هي إلا احتيال. وأستاذ
علم الأحياء التطوري المرموق في جامعة هارفرد "مارك هاوزر" استقال في
2011 أثناء تحقيق أجراه مكتب السلامة البحثية في قسم الخدمات الصحية والإنسانية
قبل أن ينتهي التحقيق إلى أن في بعض أبحاثه بيانات مفبركة.
وفي كل عام يكتشف مكتب السلامة البحثية حالات لا حصر لها
من السلوكيات الرديئة بين العلماء تتراوح ما بين الكذب في طلبات المنح وحتى
استعمال صور مفبركة في منشوراتهم. كما تقوم مدونة تحمل اسم Retraction Watch بنشر تيار متدفق من أخبار الأبحاث التي ترفضها المجلات بسبب مزاعم
أو أدلة على عوار فيها.
ومع كل اكتشاف حالة خداع بحثي نجد ردود الأفعال نفسها لدى
العلماء: التكذيب أول الأمر، ثم الغضب، ثم النزوع إلى وسم مرتكب الخداع بأنه
البيضة الفاسدة ضمن كيان لولاه لكانت صفحته ناصعة البياض. لكن سوء الأداء العلمي
الذي سلطت عليه الأضواء في السنوات الأخيرة يشير ـ على أقل تقدير ـ إلى أن عدد
السيئين في المجال العلمي ليس بسيطا كما يحلو للكثيرين أن يعتقدوا. ولئن نحن نظرنا
إلى الأمر من وجهة نظر أكثر تهكما لرأينا أن شخصيات من قامة هوانج وهاوزر ليست شخصيات
دخيلة بقدر ما هي تمثل قمة السوكيات الكاذبة التي تتراوح ما بين انتقاء البيانات
بحيث تتلاءم مع فرضية معينة ـ وهو ما يعترف كثير من الباحثين بشيوعه ـ إلى الفبركة
الصريحة. غير أن طبيعة خدعة شتيبل ومداها يضعانه بمنأى عن أغلب الأكاديميين
المخادعين. ولقد قال لي بنفسه "إن المدى الذي وصلت إليه، والفترة الزمنية
الطويلة لذلك، تجعلانها حالة متطرفة. فهي ليست ورقة بحثية، أو عشرة، بل أكثر
بكثير".
لم ينكر شتيبل أن دافعه إلى الخداع كان الطموح. ولكن
الأمر كان أكثر تعقيدا من ذلك، فلقد أكد لي أنه أحب علم النفس الاجتماعي، ولكن
فوضى البيانات التجريبية كانت تشعره بالإحباط، إذ نادرا ما كانت تفضي إلى نتائج
واضحة. قال إنه عاش عمره مهووسا بهاجس الدقة والنظام فقاده هذا الهاجس إلى أن
يختلق نتائج تجدها المجلات جذابة. قال إنه "كان بحثا عن الاستطيقا، عن الجمال
بدلا من الحقيقة". وصف سلوكه بأنه كان إدمانا ساقه إلى القيام بأعمال كانت
تزداد اجتراء على الخداع، كالمتعاطي الباحث عن مزيد من التأثير والنشوة.
حينما سألت شتيبل عما إذا كان قال لي الحقيقة، بدا كمن
توجع. وقال إنه لم يعد ثمة سبب يحمله على الكذب. لقد أجرى تجارب في الخداع على
مدار عقد كامل والآن صار أخيرا مستعدا للحقيقة، لفهم العلة والطريقة التي انتهت به
إلى ما انتهى إليه. قال "عندما تعيش حياتك بصورة طبيعية ثم يحدث على حين غرة
شيء متطرف تصبح حياتك كلها حقيبة تفسيرات محتملة لانتهائك إلى ما انتهيت
إليه".
***
جامعة جرونينجين حيث أجرى شتيبل كثيرا من تجاربه الزائفة
|
يعيش شتيبل في حي خلاب غارق في الشجر في تيلبورج، وهي
مدينة هادئة يسكنها مائتا ألف نسمة في جنوب هولندا. وذات أصيل في نوفمبر الماضي، جلس
في مطبخه يتناول غداء أعده على عجل من الجبن والخبز والشوكولاتة المبشورة، متخللا
شعره بأصابعه، متفكرا في مستقبله. كانت الجامعات التي تحقق في قضيته تستعد لإصدار
تقرير نهائي بعد أسبوع كان شتيبل يرجو أن ينهي الجلد المتواصل الذي يهوي عليه من
وسائل الإعلام الهولندية منذ ذيوع الفضيحة.
كما كان من شأن التقرير أن يتيح له
نشر كتاب ألفه بالهولندية بعنوان "
Ontsporing " أو “derailment”بالإنجليزية أو "الخروج عن المسار" وحصل لقاءه على مكافأة نشر
زهيدة. في هذا الكتاب ينظر شتايبل إلى حياته، معتمدا على يوميات شخصية بدأ كتابتها
بعد افتضاح أمر خدعته. كان شتيبل يريد من كتابه أن يحقق له الخلاص والربح، وبدا
أنه لم يفكر كثيرا فيما إذا كان سيساعده أم سيضيره في فرصته المحدودة للحصول على
غفران طلبته وزملائه الذين خدعهم.
جاء شتيبل بلوحي شوكولاتة مغلفين لنقتسمهما. وفيما كنا
نأكلهما، تابعته وهو يطوي غلاف الشوكولاتة إلى أشكال مستطيلة منتظمة تمام
الانتظام. بعدها، تعودت على تذكيره لي بألا أترك الأبواب مواربة ونحن ننتقل من
غرفة إلى غرفة. ولما أوضحت له ملاحظتي اعترف لي بهوسه طول عمره بالنظام
والسيمترية.
ولمرات عديدة خلال حوارنا، ألمح شتيبل إلى أن علاقته
بالحقيقة غائمة وما بعد حداثية، وهو ما وافق على كونه غلالة ضبابية ملائمة
لأخطائه. قال إنه "من الصعب معرفة الحقيقة. حينما يقول لك شخص ’أحبك’ كيف
تعرف فعلا ما يعنيه؟". في ذلك الوقت، كانت هولندا تقترب من الاحتفال بوصول
سان نيكولاس، فكانت صغرى ابنتيه تجلس بجوار المدفأة تغني أغنية تراثية هولندية ترحب
بسان نيك. أشار شتيبل إلى أن الأطفال من عمرها ـ وهي في العاشرة حينذاك ـ يعرفون
أن سان نيك لا يأتي حقا من المدخنة. ولكنهم، فيما قال لي وهم يغمز بعين،
"يحبون أن يصدقوا القصة على أية حال، فهذا يطمئنهم أن الهدايا قادمة".
في السنوات الأولى من عمله البحثي، حين كان من المفترض
أنه يجمع بيانات تجريبية دقيقة ـ كتب شتيبل أبحاثا يبسّط فيها علاقات معقدة
ومتشابكة بين العديد من المتغيرات. وسرعان ما أدرك أن محرري المجلات يفضلون
البساطة. فـ "هم يقولون لك بالفعل ’استبعد هذه المواد. اجعلها أكثر
بساطة’". ولم يمض وقت طويل حتى بات يكافح من أجل كتابة مقالات رشيقة.
في صباح يوم أحد، ونحن في طريقنا بالسيارة إلى قرية
ماستريخت لمقابلة والديه، مضى شتيبل يتأمل في سر إثارة سلوكه كل هذه الغضبة في
هولندا. قال إن "الناس ينظرون إلى العلماء نظرتهم إلى رهبان قابعين في دير
يبحثون عن الحقيقة. الناس فقدوا الإيمان بالكنيسة، لكنهم لم يفقدوا الإيمان
بالعلم. وما فعلته أنا يبين أن العلم ليس مقدسا".
قال إن ما لم يدركه الرأي العام هو أن العلم الأكاديمي
أيضا يتحول إلى بيزنس. "الموارد نادرة، والمرء بحاجة إلى منح، بحاجة إلى
نقود، والتنافس قائم. والناس الطبيعيون يذهبون إلى أقصى حد من أجل الحصول على
النقود. العلم بالطبع معني بالاكتشاف، والتنقيب من أجل الوصول إلى الحقيقة. ولكن
العلم أيضا تواصل وإقناع وتسويق. أنا مندوب مبيعات. أنا بائع متجول على الطريق.
والناس أيضا على الطريق، وكلٌّ يحمل كلامه. وأنا أحمل كلامي. وما هو إلا
سيرك". وأشار إلى عالمي نفس يعجبانه "جون كاسيوبو" ودانيال جيلبرت" ، وإلى أن
أيا منهما لم يتهم بالاحتيال. "يتكلمان في محاضرة في برلين، وفي محاضرة بعد
يومين في أمستردام يقولان نفس الكلام، ثم إلى لندن. بائعان متجولان يبيعان
قصتهما".
أطلقت السيارة صوت صافرة تشير إلى أننا تجاوزنا الحد
الأقصى للسرعة. أبطأ شتيبل. سألته عما لو كان يتمنى لو كان هناك نظام إنذار ما في
حياته المهنية ينبهه قبل أن تنتهي. قال "من المؤكد أنه كان لينفع. ومع ذلك
أعتقد أنني بحاجة إلى صدمات. هذه غير كافية". قال إن بعض أصحابه سألوه عما
كان يمكن أن يوقفه فقال "لا أعرف. لا أظن أنه كانت هناك نهاية. لم يكن هناك
زر إيقاف. كان عقلي تجمد. وكان عليه أن ينفجر. لم يكن لذلك من بديل".
محطة قطار أوتريخت التي يفترض أنها موقع واحدة من أشهر وأهم تجارب
شتيبل الزائفة
|
خرج إلينا "روب" والد شتيبل ـ وهو الآن في
الثمانينيات من العمر ـ ليستقبلنا عند وصولنا. وأمه دريكجي، وهي الأخرى في
الثمانينيات من عمرها، وأقصر بنحو قدم من شتيبل، تطلب من ولدها أن يحني رأسها حتى
تفحص احمرارا على جبهته أرجعه هو إلى ما يعانيه من ضغوط. أعطاهما نسخة من الكتاب.
قلبت أمه صفحات الكتاب وقالت لي "لم أعرف قط أن ديريك كان تعيسا طوال كل تلك
السنوات" مشيرة إلى ما يصفه تشيبل في كتابه من إحساس الذنب والعار الذي صاحبه
على مدار حياته الأكاديمية.
تشيبل هو الأصغر بين أربعة أشقاء في أسرة عاشت على مقربة
من أمستردام حيث كان روب ـ المهندس المدني ـ يعمل مديرا في مطار شيبهول. حكي لي
شتيبل أن تفاني أبيه في عمله ساقه إلى أن يكبر على الاعتقاد بأن الأفراد ما هم إلا
ما يحققونه مهنيا. قال إن "ذلك ما كان عليه جيل أبويّ. أنت ما تنجزه".
يقول شتيبل إنه كان في المدرسة الثانوية متفوقا في
المواد الدراسية وفي الرياضة أيضا، وإنه كان يؤلف المسرحيات ويمثل فيها. وكانت له
زميلة اسمها مارسيل، وكانت هي الأخرى ممثلة في مسرحيات المدرسة وبعد ذلك أصبحت
زوجة له. وبعد تخرجه من الثانوية، درس شتيبل التمثيل لفترة قصيرة في جامعة إيست
شتارودسبيرج في بنسلفانيا قبل أن يقرر ـ بسبب تواضع موهبته التمثيلية ـ أن يرجع
إلى هولندا ليحصل على درجة جامعية في الفلسفة.
وأخيرا تقدم إلى جامعة أمستردام لنيل درجة دكتوراه
الفلسفة في أطروحة عن كيفية حكم الناس على بعضهم البعض. ولكنه لم ينل تلك الفرصة
التي حظي بها متقدم شاب من ليدن يدعى مارسيل زيلنبرج. وفي العام التالي التحق شتيبل
بالجامعة لإعداد أطروحة في موضوع آخر هو "التمثل والمخالفة" تحت إشراف
عالم نفس مرموق يدعى "فيليم كوم". والتمثل والمخالفة كلاهما من الآثار
السيكولوجية المستقرة. فحينما يتم تلقين
الناس مفهوما مجردا ـ من قبيل الأمانة على سبيل المثال أو الغطرسة ـ أو يجري حملهم
على تدبره ويستطيعون أن يروه في مكان آخر، فهذا هو التمثل. أما المخالفة فتكون
عندما يقارن الناس شيئا بمثال ملموس، فيقارنون أنفسهم على سبيل المثال بصورة نموذج
ما.
في معرض عمله على أطروحته، أجرى شتيبل سلسلة من التجارب
تبين ما إذا كان لجوء الناس إلى التمثل أم المخالفة يعتمد على السياق. ولكي يجري
هذه التجارب، كان على شتيبل أن يمر بملل وسخف هما جزء أصيل من لب العلم التجريبي.
فلكي يقوم بتلقين الأشخاص، كان يقوم بتصميم ألغاز لغوية [كالكلمات المتقاطعة،
مثلا] تصل بالأشخاص من بين الطلبة الجامعيين المتطوعين عند حلها إلى كلمات مثل
"الذكاء" أو "أينشتين". ثم إنه كان يطلب منهم أن يقرأوا قصة
عن شخصية ما وأن يحددوا درجة ذكاء الشخصية أو لطفها أو غيرهما من النزعات على
مقياس للذكاء أو اللطف. تبين لشتيبل أنه حينما يجري تلقين الأشخاص بشيء ما مجرد
ككلمة "الذكاء" فإنهم يكونون أكثر استعدادا للعثور على هذه السمة أو
النزعة في أنفسهم وفي الآخرين فيحكمون مثلا بأن شخصية في القصة كانت أكثر ذكاء
منهم لو كانوا في مكانها. أما حينما يتم تلقينهم بمثال على نزعة ـ ككلمة
"أينشتين" مثلا ـ فهم يميلون إلى عقد مقارنة فيحكمون بأن شخصية القصة أقل
ذكاء.
حصل شتيبل على درجة الدكتوراه سنة 1997. وكومين ـ الذي
لا يزال أستاذا في جامعة أمستردام ـ لا يخالجه أدنى شك في سلامة تجاربه في رسالته.
بل إنه كتب لي في رسالة إلكترونية يقول إن "شتيبل كان ذا موهبة استثنائية،
وكان طالبا دءوبا ومتحمسا. ولقد كان امتيازا لي أن أعمل معه".
في أمستردام،
أصبح شتيبل وزيلنبرج صديقين حميمين، لهما مكتبان متقابلان في نفس القسم. كان
زيلنبرج ينتمي إلى أسرة عمالية، بينما كانت لشتيبل خلفية أكثر تميزا. وخلافا لأغلب
طلبة الدراسات العليا، كان يرتدي البذلة الكاملة في المناسبات. ويتذكر زيلنبرج أنه
كان متغطرسا وبغيضا في بعض الأوقات، ولكن سبب ذلك أنه كان "على دراية أكبر
بالأمور". كما أنه كان "شخصا ودودا
وداعما لغيره" حسبما يقول زيلنبرج. عندما قرر شتيبل ومارسيل أن يتزوجا سنة
1997، كان زيلنبرج حاضرا حفل عزوبية شتيبل الذي أقيم في قارب في قنوات أمستردام.
أقام شتيبل في أمستردام ثلاث سنوات بعد حصوله على
الدكتوراه، يكتب أبحاثا يقول إنها لم تكن تلفت الأنظار. ومع ذلك كان أنداده ينظرون
إليه باعتبار أنه حقق كباحث انطلاقة صلبة، وفاز بجائزة من الاتحاد الأوربي في علم
النفس الاجتماعي التجريبي. وفي عام 2000، أصبح أستاذا في جامعة جرونينجن.
في أثناء وجوده هناك، بدأ شتيبل يختبر فكرة أن التلقين
قد يؤثر على الناس بدون أن يعوا ذلك. فابتكر العديد من التجارب التي يجلس فيها الأشخاص
أمام شاشة كمبيوتر تظهر عليها كلمةٌ أو صورةٌ لمدة عُشر ثانية الأمر الذي يجعل من
الصعب على الأشخاص أن يسجلوا الصورة أو الكلمة في أذهانهم الواعية. ثم إنه كان
يختبر الأشخاص اختبارا يستنتج منه ما إذا كان التلقين ترك تأثيرا فيهم.
في إحدى التجارب التي أجراها على أشخاص من طلبته،
طلب شتيبل من كل شخص أن يقيم مستوى جاذبيته، بعد أن يكون تعرض لصورة سريعة للغاية لشخص
شديد الجاذبية أو منعدم الجاذبية. كانت الفرضية تذهب إلى أن من يتعرضون لرؤية صورة
شخص جذاب سوف يقومون ـ من خلال المقارنة الأوتوماتيكية ـ باعتبار أنفسهم أقل
جاذبية من الأشخاص الذين يتم تعريضهم لصورة غير جذابة.
ولكن التجربة ـ شأن تجارب أخرى ـ لم تقدم لشتيبل النتائج
التي كان يرجوها، حسبما يقول. وكان أمامه أن يختار بين العدول عن العمل أو
إعادة التجربة. ولكنه كان قد أنفق بالفعل وقتا كبيرا في البحث وكان على قناعة بأن
فرضيته صحيحة. قال لي: "فقلت لنفسي، أقول لك حاجة، سأخترع أنا
البيانات".
كان
يجلس إلى مائدة مطبخه في جرونينجن يسجل على الكمبيوتر الشخصي أرقاما تعطيه النتائج
التي يريدها. كان يعرف أن الآثار التي يتطلع إليها لا بد أن تكون صغيرة لكي يمكن تصديقها،
فحتى أنجح تجارب علم النفس نادرا ما تؤدي إلى نتائج مهمة. كان لا بد من إجراء
الحسابات الرياضية بصورة عكسية: درجات الجاذبية الفردية التي يمنحها الأشخاص
لأنفسهم على مقياس من صفر إلى سبعة كانت لا بد أن تأتي بحيث يحصل شتيبل على فارق
ضئيل ولكنه مهم في متوسطات الدرجات بين الظرفين اللذين يقارن بينهما. كان يجعل
الدرجات الفردية مثل 4 و5 و3 و3 لأشخاص عرض عليهم الوجه الجذاب. قال لي شتيبل
"كنت أحاول أن أجعلها عشوائية، وكان ذلك بالطبع أمرا شديد الصعوبة".
وفي
البداية كان شتيبل يجد ـ حينما يقوم بالتحليل ـ أن الفارق أكبر من المثالي بين
الظرفين اللذين يقارن بينهما. فكان يذهب من جديد فيعيد تقليل الأرقام. وكان الأمر
يستغرق ساعات قليلة من المحاولة والخطأ تتوزع على أيام قليلة، إلى أن يصل إلى
البيانات المطلوبة.
قال إنه شعر بكل من الفزع والارتياح. نشرت النتائج في
مجلة "جريدة علم النفس الاجتماعي" عام 2004، و"قلت لنفسي، عال،
بوسعنا إذن أن نفعلها".
وبدأ مشوار شتيبل المهني. نشر أكثر من عشرين دراسة وهو
في جرونينجن، كتب أغلبها بمساعدة من طلبة الدكتوراه الذين يشرف عليهم. ويبدو أنهم
لم يتساءلوا عن سر قيام المشرف بإجراء الكثير من التجارب نيابة عنهم. ولا تساءل
زملاؤه عن هذا السلوك غير المألوف.
في 2006، انتقل شتيبل إلى تيلبورج، لينضم إلى زيلنبرج.
وتوافد الطلبة على معمله، وسرعان ما تعاظم نفوذه. وفي سبتمبر 2010، أصبح عميد كلية
العلوم الاجتماعية والسلوكية. وكان بوسعه أن ينسحب من المجال البحثي ليركز على
المجال الإداري، ولكنه حسب ما قال لي لم يعد يستطيع أن يقاوم غواية فبركة نتائج
جديدة. كان قد عمل بالفعل على البيانات اللازمة لدراسة محطة قطارات أوترخت وكان
يعمل على الدراسة التي سيتم نشرها في مجلة ساينس في العام التالي. علاوة على أن
زملاء له كانوا يطلبون منه التعاون على مشاريع بحثية أخرى.
صمم شتيبل دراسة ليختبر من خلالها ما إذا كان الأفراد
يميلون إلى زيادة الاستهلاك حينما يتم تلقينهم بفكرة الرأسمالية. قام هو وشريكه
البحثي بوضع استبيان يملؤه الأشخاص تحت نوعين من الظروف بينهما اختلاف طفيف. في
أحدهما، يملأ الأشخاص الاستبيان بينما يكون أمامهم كوب مملوء بحلوى إم آند إم
ومطبوع عليه من الخارج كلمة kapitalisme [رأسمالية]، وفي الظرف الآخر تكون الكلمة
المكتوبة على الكوب من نفس حروف kapitalisme لكنها لا تحمل أي معنى. على الرغم من أن
الاستبيان يتضمن أسئلة لها علاقة بالرأسمالية والاستهلاك، من نوعية أيهما الأحب
إليك: السيارات الكبيرة أم الصغيرة، إلا أن ما كانت الدراسة تقيسه حقا هو كمية الـ
"إم آند إم" التي يتناولها كل شخص أثناء ملئه الاستبيان. (لم يكن النهج
المتبع في التجربة جديدا، فهناك تجارب إم آند إم سابقة). وكان شتيبل وزميله
يفترضان أن الأشخاص المواجهين كلمة kapitalisme سوف يأكلون المزيد من حبات الإم آند إم.
كلف شتيبل طالبا لديه بجمع الأكواب وحبات الإم آند إم
ويضعها في سيارته هي وصندوق الاستبيانات. ثم إنه كان يستقل السيارة قائلا إنه ذاهب
للقيام بالدراسة في مدرسة ليلية في روتردام حيث يعمل صديق له أستاذا فيها.
كان شتيبل يرمي أغلب الاستبيانات في سلة القمامة خارج
الحرم الجامعي. وفي البيت يستخدم مقياسه الخاص فيزن ملئ كوب من حبات الإم آند إم
ويجلس ليحاكي التجربة. وبينما يملأ الاستبيان كان يتناول حبات الإم آند إم وفقا
لما يعتبره المعدل المعقول، ثم يزن ملئ كوب من الإم آند إم ليقيس الفارق الذي يمكن
أن يكون قد أكله مالئ الاستبيان. ثم إنه كان يكمل ملء الاستبيانات حول هذا المعدل.
قال لي إنه تخلص من بعض الحبات وأكل الكثير. قال "كنت أنا المالئ الوحيد
لاستبيانات تلك الدراسة".
في ذلك الوقت الذي كان شتيبل يخطط فيه لهذه الدراسة ـ
التي لن يقدر لها النشر ـ جاءه زميل آخر من تيلبورج يدعى "آد
فينجرهويتس" وطلب منه مساعدته في تصميم دراسة تحدد ما إذا كانت التعرض لشخص
يبكي يدفع إلى التماهي. وتفتق ذهن شتيبل عن فكرة قال لي فينجرهويتس إنها
"ممتازة". قاما بإعطاء تلاميذ في مدرسة ابتدائية رسما لشخصية كارتونية
معبرة يقومون بتلوينها، فنصفهم يلونون الشخصية، ونصفهم الآخرون يلونون نفس الشخصية
في حال انهمار الدموع من عينيها. وعند انتهاء المهمة، كانا يعطيان للأطفال حلوى
ويسألانهم عما إذا كانوا مستعدين لتقاسمها مع غيرهم من الأطفال ـ لقياس السلوك ذي
التوجه الاجتماعي.
عمل شتيبل وفينجرهويتس مع باحث مساعد في إعداد أوراق
التلوين والاستبيانات. وقال شتيبل لفينجرهويتس إنه سوف يجمع البيانات من مدرسة له
اتصال بها. وبعد أسابيع قليلة، دعا فينجرهويتس إلى مكتبه وعرض عليه النتائج مكتوبة
باستعجال على ورقة. وابتهج فينجهويتس لمرأى الفارق الواضح بين الظرفين، والذي يبين
أن الأطفال ممن تعرضوا للعينين الدامعتين كانوا أكثر استعدادا لاقتسام الحلوى مع
غيرهم. كان نشرها في جريدة مرموقة أمرا لا شك فيه. قال لي فينجرهويتس "قلت
’هذا خرافي. هذا أمر لا يصدق’".
بدأ يكتب البحث، ثم تساءل عما لو كانت البيانات تشير إلى
أن هناك فارقا بين البنات والأولاد. فسأل شتيبل أن يعطيه البيانات، وسأله "هل
ثمة اختلاف على أساس النوع؟". فقال له شتيبل إن البيانات لم يتم إدخالها على
الكمبيوتر بعد.
شعر فينجرهويتس بإحباط بالغ. لقد عرض عليه شتيبل السبل
والانحرافات المعيارية بل والمؤشر الإحصائي الذي يشهد بإمكانية الوثوق في
الاستبيان، وهي جميعا أشياء يبدو أن الوصول إليها يتطلب كمبيوتر. وتساءل فينجرهويتس
عما لو كان شتيبل ـ وهو عميد الكلية ـ يمتحنه. ولما بدأ يشك في احتمال التزييف،
استشار أستاذا جامعيا متقاعدا. فرد عليه الأستاذ الجامعي المتقاعد متسائلا:
"هل تعتقد أن شخصا في مكانة شتيبل يمكن أن يزور بيانات؟"
قال لي فينجر هويتس "في ذلك الوقت، قرر ألا أنقل شكوكي
إلى رئيس الجامعة".
لو أن مكانة شتيبل كانت واقيا له، فقد كان له من ثقته
بنفسه دافع أكبر. كانت كلماته في المؤتمرات تنطق بالبراعة وتحفل بالطرافة. كان يرى
أنه يعطي جمهوره ما يتوق إليه: "قصة جميلة وبسيطة ومتينة". كان شتيبل
يعرض عن التفاصيل التجريبية، متخذا سمت المفكر الذي لا صبر له على المناهج. قال لي
إن نبرة محاضراته كانت "دعونا نترك أعمال السمكرة للسمكرية والمتخصصين في
الإحصاء". وإن طرح عليه أحد سؤالا عن الأثر المحتمل لتغيير أحد ظروف تجربة
ما، كان يرتجل عفو الخاطر، يقول "قد أرد عليه قائلا على سبيل المثال ’لقد
فكرت في هذا، وأجرينا تجربة أخرى لم أشر إليها في بحثي جربنا فيها ذلك لكنها لم
تنجح’".
ومع ذلك كان في محاضرات الدراسات العليا يقوم بتدريس
أخلاقيات البحث العلمي، فيطلب من طلبته أن يعودوا إلى أبحاثهم فينقبوا فيها عن
أشياء قد تكون متعارضة مع أخلاقيات البحث العلمي. قال لي "وكانوا يرجعون
بفضائح. اتباع رأي علمي دون تحقق. عدم استجواب المشاركين في الاستبيان. الخطأ في
تحليل البيانات. النظر إلى بعض البيانات دون غيرها". قال إنه لم يكن يرى مثل
هذه المشكلات في أبحاثه هو، لأنها أصلا لم تكن قائمة على بيانات واقعية".
ومن جرونينجن إلى تيلبرج، لحقت شائعات التزييف بشتيبل،
لكن أحدا لم يثر من الشكوك ما يكفي لفتح التحقيق. كما لم يتساءل أحد عن غرابة سلوك
شتيبل إذ يجمع البيانات بدلا من طلبته. ثم حدث في ربيع عام 2010 أن لاحظ أحد
طلبة الدراسات العليا شذوذا في تجارب أجراها شتيبل بالنيابة عنه. وحينما طلب
البيانات الأصلية قال له شتيبل على الفور إنها لم تعد لديه. وفي وقت لاحق من ذلك
العام، وبعد فترة قصيرة من تولي شتيبل عمادة الكلية، نقل الطالب شكوكه إلى أستاذ
شاب في جمنازيوم الجامعة. وتكلم كل منهما معي إلا أنهما طلبا عدم ذكر اسميهما خشية
أن يلحق الضرر بعمليهما إن عرفت شخصيتاهما.
بدأ الأستاذ الشاب ـ بعدما تم تعيينه ـ في حضور اجتماعات
شتيبل المعملية. أذهله مدى روعة البيانات مهما تكن التجربة. قال لي "لا أظن
أنني رأيت تجربة فشلت، وهذا استثنائي بكل تأكيد. حتى أفضل الناس في حدود خبراتي
تفشل لهم دراسات بين الحين والآخر. في العادة، نصف التجارب يفشل".
طلب الأستاذ الشاب من شتيبل أن يعمل معه على مشروع بحثي،
بنية أن يرى الطريقة التي يعمل بها. قال لي "يمكنك القول إنني كنت أريد أن أجرب
إحدى مجموعات البيانات المذهلة تلك". وصمم الاثنان دراسات لاختبار فرضية ترى
أن تذكير الناس بالأزمة المالية يجعلهم أكثر كرما.
في أوائل فبراير، زعم شتيبل أنه أجرى الدراسات. وقال لي
الأستاذ الشاب في سخرية بينة إن "كل شيء بدا جيدا إلى أبعد حد". زعم
شتيبل أن هناك علاقة إحصائية بين الوعي بالأزمة المالية والكرم. لكن الأستاذ الشاب
عندما نظر في البيانات، اكتشف تضاربا يؤكد شكوكه بأن شتيبل كان يهندس البيانات
بنفسه.
استشار الأستاذ الشاب زميلا أقدم منه في الولايات
المتحدة فقال له إنه لا يرى ما يلزمه بإثارة المسألة. ولكن الطالب الذي لفت نظر
الأستاذ الشاب رفض هو وطالبة دراسات عليا أن يسكتا عن الأمر. في الربيع، قامت
طالبة الدراسات العليا بتدقيق بضع مجموعات بيانات كان شتيبل قد وزعها على الطلبة
في السنوات الأخيرة، وكان أغلبها قد أثمر عن أبحاث وأطروحات. واكتشفت جملة من
أشكال الشذوذ، وكان أول ما أثار شكوكها مجموعة بيانات بدا أن شتيبل استنسخها كما
هي مرتين، تاركا صفا من البيانات متطابقا تمام التطابق في دراستين.
قرر الطالبان أن يرفعا تقريرا بالاتهام إلى رئيس القسم
مارسيل زيلنبرج. لكنهما خشيا أن يدافع زلينبرج عن شتيبل، فهو في النهاية صديقه. اختبارا
لنوايا زيلنبرج، ابتكر أحد الطالبين سيناريو عن أستاذ ارتكب جريمة تزييف أكاديمي،
وسأل زيلنبرج عن رأيه في ذلك الموقف، دون أن يقول له إن السؤال افتراضي. فكان رد
زيلنبرج بحسب ما قال لي الطالب إنه "لا بد من شنقه على أعلى شجرة" إن
ثبت الاتهام.
انتظر الطالبان حتى نهاية الصيف حيث يكونان في مؤتمر في
لندن مع زيلنبرج. قال لي أحدهما "قررنا أن نخبر مارسيل في المؤتمر لكي لا
تثور ثائرته ويتصل بديديريك على الفور".
وفي لندن التقى الطالبان بزيلنبرج بعد العشاء في الجناح
الذي كانوا يقيمون فيه. ومع تقدم الليل، تحول شكه الأولي إلى صدمة. وكانت الساعة
قد وصلت الثالثة صباحا عندما انتهى زيلنبرج من آخر زجاجة بيرة ومضى إلى غرفته وهو
لا يرى أمامه. وفي تيلبروج في عطلة نهاية الأسبوع، واجه شتيبل.
بعد زيارته محطة قطار أوتريخت في اليوم الذي استجوبه فيه
رئيس الجامعة، رجع شتيبل إلى البيت قرابة منتصف الليل. كانت زوجته مارسيل تنتظره
في غرفة المعيشة، لكنه لم يحك الحقيقة كاملة إلا في صباح اليوم التالي. قالت لي
مارسيل ذات مساء في شهر نوفمبر عندما تركنا شتيبل وخرج ليمشي وحده "ثماني
سنوات أو عشرة من حياتي انقلبت فجأة".
في الأسبوع التالي، وبينما يتهيَّأ مسئولو الجامعة لإعلان الاتهام، جلس الزوجان يشرحان المسألة لابنتيهما.
"هل ستموتان؟". هكذا تساءلت الفتاتان، بعدما
طرحتا من قبل سؤالين عن موضوعين مهمين في حياتيهما: "هل اتفقتما على الطلاق؟ هل سننتقل
إلى بيت آخر؟". قالت مارسيل "لا". وشعرت الفتاتان بالارتياح. قالت
الصغرى منهما "حسن يا بابا. أنت دائما تقول إن الواحد يمكن أن يغلط، على أن
يتعلم من غلطه".
وصفت مارسيل كيف أنها كانت تضع في ذهنها صورة مقسمة.
قالت لي "يمكنك القول إنني صورت حياته من حيث كونه أبا، وزوجا لي، وأعز صاحب،
وابنا لأبويه، وصاحبا لأصحابه، وإنسانا هو جزء من مجتمع، وجارا ـ ومن حيث كونه
عالما ومدرسا. ثم وجدت بنفسي أن كل هذه الأجزاء لا بأس بها فيما رأيت ـ واو، لا بد
أن ديدريك والعلم هما المزيج المسموم".
ومع ذلك، مرت بها موجات من الغضب. كان الغضب يتملكها
كلما تذكرت الليالي التي لم يكن ينام فيها شتيبل لأنه يعمل على أبحاثه. قالت لي
"كنت أقول لنفسي ’هذا من أجل العلم’ لكنه لم يكن كذلك". تعبت لكي تفهم
السبب الذي جعله يحشو طلبته ببيانات مزورة. شرحت الأمر لنفسها بكونه جهدا ملتويا
بذله شتيبل ليقدم لطلبته حياة بحثية مثالية شبيهة بالتي أقامها هو لنفسه، ولكنه
بذلك، وبلا شك، "جعلهم يعيشون حيوات شقية معيبة".
في أواخر أكتوبر، أي بعد قرابة شهرين من الفضيحة، أصدرت
الجامعة تقريرا مؤقتا وصفت فيه شتيبل بالمستبد المتغطرس الذي ما كان يتلاطف مع
زملائه إلا ليتلاعب بهم. وانهار شتيبل لما رأى هذا التقييم لشخصيته. حكت لي مارسيل أنه "كان يتصل بأمه وهو في
اهتياج. كان يحاول أن يقفز من الشباك". ووصف له الطبيب النفسي جرعات علاج
مضاعفة، وحمله صديق على أن يتعهد لمارسيل بألا ينتحر. ولكي يهرب من ملاحقات
الإعلام ذهب ليقضي بعضة أيام مع شقيقه في بودابست.
غرق شتيبل ـ إثر رجوعه إلى تيلبورج ـ في اكتئاب عميق. وطوال الشتاء راح يملأ دفاتر
بتأملات لحياته. كانت مسألة محاسبة شجعه عليها طبيبه النفسي. ولما سامحته زوجته،
مضى يتساءل إن كان سيسامحه الآخرون ممن ألحق بهم أكبر الضرر ـ طلبته، لا سيما طلبة
الدراسات العليا.
وبعضهم بادر. في يوم من أيام ديسمبر سنة 2011، زارته في
بيته ساسكيا شفينجهامر Saskia Schwinghammer، وهي إحدى طالباته وتعمل حاليا باحثة في جامعة العلوم التطبيقية
بأوتريخت. بكى شتيبل وهو يعتذر. ذكرها أنه لا لوم عليها هي أو غيرها من الطلبة،
فما كان ينبغي لهم أن يكونوا أكثر فطنة وهم يتقبلون بيانات منه. قال لها شتيبل
"أنتم الذين كنتم تأتون بالأفكار. أنتم الذين كنتم تصممون الدراسات. وما كنت
أستولي عليه أنا كان جزءا ضئيلا من العملية كلها. فلا تدعوا أحدا يشعركم بالتفاهة
لمجرد أنكم عملتم معي".
خرجت شفينجهامر من عنده مغرورقة العينين. قالت له
"أنا سعيدة أني قابلتك". وقالت لي بعد عام إنها سامحت الشخص لكن لم تغفر
الأفعال. "هناك أخيار يرتكبون الشر. وأشرار يفعلون الخير" وشتيبل عندها
يندرج ضمن الفئة الأولى.
في نهاية نوفمبر، كشفت الجامعات عن تقريرها النهائي في
مؤتمر صحفي مشترك: قام شتيبل بتزييف خمسة وخمسين على أقل تقدير من أبحاثه، وعشر أطروحات
تقدم بها طلبته لنيل درجة الدكتوراه. لم يلق التقرير اللوم على الطلبة، برغم ما
أحاق برسائلهم من تلوث. كما تم توجيه اتهام لحقل علم النفس كله إذ تبين أن خدعة
شتيبل مرت دونما تدقيق لفترة طويلة بسبب شيوع "ثقافة قوامها الإهمال
والانتقائية والتعامل غير النقدي مع الأبحاث والبيانات". وقرر التقرير أنه في
حين لا يلام غير شتيبل على تأليفه البيانات، يلام أقرانه ومحررو المجلات والنقاد
في المجال كله لأنهم تركوه يفلت بذلك. وأشارت اللجنة إلى العديد من الممارسات بوصفها
"علما موحلا"، ومن ذلك إساءة استغلال الإحصاءات، وتجاهل البيانات التي
لا تتوافق مع الفرضيات المطلوب إثباتها والسعي إلى تلفيق قصة مقنعة مهما تكن قائمة
على غير أساس من العلم.
وكم تبدو صفة "الموحل" طيبة. لقد اعترف لي
كثير من علماء النفس الذين تكلمت معهم أن كل ممارسة من هذه الممارسات الشائعة تكون
متعمدة شأنها شأن فبركات شتيبل. كل واحدة منها تمثل اختيارا أمام العالم كلما وصل
بحثه إلى تقاطع طرق، فيجد نفسه بين طريقين أحدهما طريق الحقيقة مهما تكن غير
مرضية، وطريق يأخذ الباحث إلى نتائج أكثر وردية ووضوحا ولكنها كاذبة أو غير حقيقية
إلا جزئيا. أما ما قد يكون الأكثر إثارة للإزعاج بشأن الثقافة البحثية في تقرير
الجامعة فهو ما تصفه اللجنة من كثرة الفرص والحوافز الدافعة إلى التزوير. وذلك ما
لخصه شتيبل مرة حين قال لي إن "برطمان البسكويت كان على المنضدة بدون
غطاء". علاوة على أن زميلا يتشكك في قيام زميله بتزوير قد يميل إلى الصمت
خوفا من تكلفة الكلام.
وإن مفتاح نجاح شتيبل في الإفلات بفبركاته كل هذا الوقت
يتمثل في معرفته العميقة بمجتمع مجاله. قال "أنا لم أفعل شيئا غريبا. لم أقل
مرة تعالوا نجر تجربة نثبت بها أن الأرض مسطحة. كنت دائما أتأكد ـ ربما من خلال
عقل مخادع وداهية ـ من أن التجربة معقولة وأنها ناتجة عن بحث سابق عليها، وأنها
مجرد الخطوة التي ينتظرها الكثيرون". كان دائما يكثف من قراءته لأدبيات البحث
العلمي توليدا للفرضيات. "وهكذا تأتي الفرضيات قابلة للتصديق ويسهل الاحتجاج بأنها
الشيء المنطقي الوحيد الذي يمكن الانتهاء إليه. كل الناس تريدك أن تكون جديدا
ومبدعا، وعليك في الوقت نفسه أن تكون صادقا ومعقولا. عليك أن تقدر على القول بأن
هذا شيء جديد ومثير جملة وتفصيلا، ولكنه محتمل جدا في ضوء ما نعرفه حتى
الآن".
الاحتيال على طريقة شتيبل قد يمثل قدرا أقل من الخطر على
السلامة العلمية من توجيه البيانات والتعامل مع التجارب بانتقائية. لقد حكى لي
الأستاذ الشاب الذي كان يدعم طالبي الدراسات العليا اللذين فضحا شتيبل أن منع
النتائج ـ من خلال إيقاف جمع البيانات ما أن يبدو أنها تفضي إلى تأكيد فرضية ـ أمر
شائع. قال لي "آب ديجكشترهويس" وهو من أشهر علماء النفس في هولندا
"إنني بلا شك أستطيع أن اقول إن هذه الممارسة إذا تمت ببراعة فإن اكتشافها
أمر أصعب بكثير. وأضاف أن المجال يبذل جهودا متصلة لمعالجة المشكلات التي ألقى
احتيال شتيبل الضوء عليها.
عندما صدر كتاب شتيبل، لقي ردود فعل مختلطة من النقاد،
وأغضب الكثيرين في هولندا ممن رأوا أنه من العار أن يحاول شتيبل التربح من أخطائه.
وهكذا، في غضون أيام من صدوره، انتشر الكتاب على الإنترنت في صيغة بي دي إف على
أيدي الراغبين في التقليل من فرصه في تحقيق أرباح. فخلافا لشفينجهار وقليل آخرين،
لم يستجب أغلب طلبة شتيبل لاعتذاراته. وفي أواخر السنة الماضية، قالت الحكومة
الهولندية إنها تحقق فيما إذا كان شتيبل قد أساء استغلال مخصصات مالية عامة حصل
عليها في شكل منح بحثية.
سألت زيلنبرج عن شعوره إزاء شتيبل بعد عام ونصف العام من
إبلاغ رئيس الجامعة عنه. قال لي إنه وجد نفسه يؤثر سلوك طريق أطول إلى البقال على
أن يمر ببيت شتيبل، خشية أن يقابله صدفة. قال زيلنبرج "وعندما ينتهي كل ذلك،
سيكون من دواعي سروري أن أتكلم معه. وسأعرف حينئذ إن كان يمكن أن تجمع بيننا
صداقة. طبعا أفتقده، ولكن تمر لحظات أود فيها لو ألكمه في وجهه".
عرف شتيبل بعد انهيار حياته المهنية شيئا لم يكن قد سبق
له أن عرفه على الإطلاق: خبرة الفشل. في زيارتنا لأبويه، راقبت عدم ارتياحه إذ
يدافع روب وديركي عنه. قال والده روب في ثبات "إنني ألوم النظام". وكانت
حجته أن مدراء شتيبل الجامعيين ومحرري المجلات كان ينبغي أن يراقبوه عن كثب.
هز شتيبل رأسه وقال "تقبلا الأمر". بدا وكأنه
يكلم نفسه أكثر مما يكلم والديه. "لا يمكنكما القول إن النظام هو السبب.
السبب هو السبب، أيا ما يكون، وعليكما أن تتقبلا ما حدث". ولما لم يجد روب
وديركي مجالا للاستمرار في دفاعهما، ابتسم لهما في ضعف. "إنكما تحاولان أن
تبددا ألمي بقولكما إنني لا ذنب لي. ولكن ما نحتاج أن نتعلمه هو أن الأمر حدث. أنا
فعلته. كانت هناك ملابسات وظروف كثيرة، ولكنني أنا الذي فعلت".
نشر الموضوع أصلا في نيويورك تايمز، ونشرت
الترجمة على حلقتين اليوم والسبت الماضي في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق