ما الدور الذي يمكن أن تلعبه أوربا في العالم؟ "مارتن
أيرمان" أجرى هذا الحوار مع "مارتين أهتيساري"، الحاصل على نوبل في
السلام ورئيس فنلندا السابق، لمناقشته في الحاجة إلى المزيد من التكامل وفتح
الحدود داخل أوربا، وفي المسئوليات العالمية الجديدة الملقاة على عاتق القارة
العجوز.
آية الله أهتيساري: علينا أن نتحلى بالشجاعة وندافع عن
قيمنا
ــ من بين حجج الاندماج
الأوربي الأصيلة التي أعرب عنها على سبيل المثال رئيس وزراء فرنسا السابق "روبير
شومان" أن الدول التي تعتمد اقتصاديا على بعضها البعض لن تشن حروبا فيما
بينها. هل ترى أن التاريخ أثبت هذا الأمل؟
ـ نعم. ولذلك كنت مؤيدا جدا لمنح جائزة نوبل للاتحاد
الأوربي، وفوجئت بالانتقادات الحادة التي وجهها البعض عندما حدث ذلك. هؤلاء ينظرون
إلى أوربا نظرة بعيدة للغاية عن التاريخ: فنحن نحظى اليوم بفترة طويلة من التنمية
السلمية. ولدينا من التطورات ما فيه مبرر للمزيد من الاندماج السياسي والاقتصادي ـ
من قبيل ما جرى في البلقان على سبيل المثال. لقد كان الاندماج قصة نجاح عظيمة لأوربا وللذين تفتقت أذهانهم عن الفكرة
برمتها.
ــ غير أن عملية الاندماج ـ التي
تثني عليها الآن ـ تمثل أيضا جذرا للمشكلة الراهنة المتعلقة بالسياسة المالية
والحكم الديمقراطي في أوربا.
ـ لعلنا لم نقدّر مدى تعقد توسع
الاتحاد الأوربي من ست دول أعضاء في الأصل إلى سبع وعشرين دولة حاليا. إن من وراء
بعض الأعضاء الجدد في الاتحاد تاريخا سياسيا شديد الاختلاف، وها نحن نرى أن من
الصعب للغاية التحول من هذه الخلفيات إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي. لقد قلت عندما زرت
بولندا مؤخرا "إنكم في وضع يسمح لكم تماما بتوجيه النصح لدول الربيع العربي
بأن تحكوا لهم عن عمليات التحول التي خضتموها. فلقد مررتم في مجتمعكم بعملية
مماثلة للغاية". ولا ينبغي لنا أن نهون من أهمية هذه التحولات. وينبغي النظر
إلى جائزة نوبل للسلام بوصفها تشجيعا للاستمرار في عملية التوسع والاندماج. وبوسعك
أن ترى هذا المنطق ساريا عندما تنظر إلى حاصلين سابقين على الجائزة ممن نالوها
مكافأة على جهودهم في حل مشكلة الشرق الأوسط. فلقد كان مبرر منح الجائزة هو تذكير
الجميع بأهمية التقددم إلى الأمام بغية الوصول إلى حل نهائي للصراع.
ــ ما المسئولية الدولية التي تضعها
نوبل للسلام على عاتق الاتحاد الأوربي؟
ـ دعني أضرب لك مثالا شخصيا.
لقد قامت منظمتنا "مبادرة إدارة الأزمة" بالتفاوض من أجل السلام في
مقاطعة "أسيه Aceh " في اندونسيا، وبادر الاتحاد الأوربي بالمساعدة في مراقبة تنفيذ الاتفاقية
مع دول الآسيان الخمسة. فأصبحت تلك قصة نجاح عظيمة شاهدة على ما يمكن للاتحاد
الأوربي أن يفعله. وينبغي لجائزة نوبل للسلام أن تشجع الاتحاد على مواصلة القيام
بدور مماثل في المستقبل، وكذلك على مواصلة عملية التوسع التي توقفت لسوء الحظ.
قلت عندما زرت بولندا مؤخرا "إنكم في وضع
يسمح لكم تماما بتوجيه النصح لدول الربيع العربي بأن تحكوا لهم عن عمليات التحول
التي خضتموها. فلقد مررتم في مجتمعكم بعملية مماثلة للغاية".
ــ معيار جائزة نوبل للسلام
يميل إلى أن يكون معيارا دوليا. في المقابل، نرى أن جميع المناقشات الراهنة فيما
يتعلق بالاتحاد الأوربي تركز على الداخل ...
ـ وهذا هو المطلوب. ذلك أنه لا
بد لنا من العمل معا، لا سيما فيما يتعلق بتحريك تنميتنا الاقتصادية من جديد.
علينا أن نخفف العبء الواقع على كاهل الشباب الذين أمسوا عاطلين نتيجة للأزمة
المالية. علينا أن نتأكد من قدرة الناس على الانتقال من بلد إلى بلد، ولعل السكان
المتقدمين في العمر يقدمون هذه الفرصة. وفي ظل سرعة التقدم في العمر، فنحن بحاجة
إلى هجرة من خارج الاتحاد أيضا. فلسنا قادرين على شغل جميع الوظائف الواجب شغلها.
لو أنك نظرت إلى الإعلام اليوم لرأيت أنه يزدهر
على خلق الصراع. فالصراع يفجر العناوين في سوق شديد التنافسية. ومن ثم فالإعلام
يحب إثارة الجدل سواء كان له وجود أم لا.
ــ عندما تسأل الأوربيين عن
أوربا، فكثيرا ما يبرز إلى السطح موضوعان: التدخل [في شئون الدول الأوربية] من خلال
عملية صياغة القوانين والبيروقراطية الأوربية [المركزية]، والموضوع الثاني هو ما
ينجم عن الأول من مشكلات. هل من قصة إيجابية لدى الاتحاد الأوربي اليوم؟
ـ أخشى أنني وصلت إلى قناعة
بأننا لا يمكن أن نعتمد على مساعدة الإعلام في خلق فهم مشترك بين مجتمعاتنا. وأنا
هنا لا أشكو، بل إنني ببساطة أحلل الأمور في الوقت الراهن. لو أنك نظرت إلى
الإعلام اليوم لرأيت أنه يزدهر على خلق الصراع. فالصراع يفجر العناوين في سوق شديد
التنافسية. ومن ثم فالإعلام يحب إثارة الجدل سواء كان له وجود أم لا. لقد قمنا في
أوربا بتحديد مشكلاتنا. وعلينا الآن أن
نقوم بحلها. ونحن بحاجة إلى شعوب مدركة لتكون قادرة على القيام بما ينبغي القيام
به في مجتمعاتنا. وعلينا أيضا أن نتعامل مع مشكلة التقدم في العمر.
ــ هل يمكنك الاعتماد على
بروكسل في دفع هذه المبادرة؟
ـ بصفة عامة، أنا لا أبحث في
بروكسل عن حلول المشكلات. علينا أن نبدأ من المستوى الوطني فنتناقش بيننا وبين
أنفسنا وبذلك يتسنى لأفضل الخبرات أن تلهم بحلول للمشكلات التي قمنا بتحديدها.
ــ من بين الصراعات المستمرة في
الاتحاد الأوربي ذلك التوتر بين المصالح الوطنية والمنفعة العامة. والاندماج إلى
الآن لم يحل هذا التوتر ...
ـ لكل بلد مصالحه الاقتصادية،
وهذا لن يختفي في القريب العاجل. لألمانيا مصالحها، ولفنلندا مصالحها، وهكذا.
والمصالح في بعض الحالات تكون مشتركة، وفي بعضها لا تكون كذلك. ولكن ما يربطنا معا
هو أنه لا بد لنا من الاندماج حتى نتمكن من المنافسة والنمو. ولست أعتقد أن سياسات
التقشف وحدها كفيلة بأن تسترد نفوذنا من جديد.
من الأخطار المحدقة
بنا أن علاقتنا انقطعت مع التاريخ فلم نعد ننظر وراءنا إلى تاريخ بلدنا. ومن
الأخطار أيضا أننا أصبحنا ضحايا لتاريخنا، وهذا أيضا غير إيجابي.
ــ هل سنوات التقشف سنوات ضائعة
بالنسبة للاتحاد الأوربي؟
ـ أعتقد دائما أن بوسع المرء أن
يتعلم حتى من الأوقات العصيبة. المشكلة أن المرء يعمد إلى التراخي حينما تلين
الأمور. والتغير الاجتماعي ـ شأن الحياة البشرية ـ يحدث في مموجات. والتحدي الكبير
يتمثل في إدراك موعد مجيء التغير، أو موعد ضرورة التغيير. عندما اختارت
"نيوزويك" فنلندا كأصلح البلاد للحياة livable في العالم، لم يجل بخاطري أننا
أقمنا جنة على الأرض. كنا أفضل حالا بالمقارنة مع غيرنا، ولكن لا تزال لدينا
مشكلات علينا أن نقوم بحلها.
ــ أنت، وهلموت كول، وفرانسوا ميتران
تكلمتم جميعا عن أهمية دور التجربة الفردية في التزامكم تجاه الاندماج الأوربي أو
السلام العالمي. أنت تنتمي إلى جيل من الساسة عاش الحرب العالمية الثانية وإعادة
الإعمار. وأنت الآن تركت السلطة، ليتولاها جيل جديد لم يمر بتلك التجارب.
ـ كثير من الأجيال الشابة
تتعامل مع المنجزات الاجتماعية باعتبارها من جملة المسلمات. من البديهي بالنسبة
لهم أن يكون في فنلندا نظام تعليم ممتاز ونظام رعاية صحية يشمل الجميع. ولكن ذلك
كان نتاج عملية تنموية طويلة، طويلة. ومن الأخطار المحدقة بنا أن علاقتنا انقطعت
مع التاريخ فلم نعد ننظر وراءنا إلى تاريخ بلدنا. ومن الأخطار أيضا أننا أصبحنا
ضحايا لتاريخنا، وهذا أيضا غير إيجابي. إن كل جيل جديد يواجه تحديات جديدة، ولكن
ما يمنحني الأمل هو أن نقطة الانطلاق لكل جيل جديد يمكن أن تكون أفضل، وذلك بسبب
منجزات القادة السابقين. إننا ننعم الآن بالسلام منذ وقت طويل، ومجتمعنا يعمل
بكفاءة. والتحديات الآن أدق، ولكنها ليست أسهل.
قد تجري بلد أفضل
انتخابات في العالم، ولكن المهم فعلا هو الطريقة التي يتصرف بها القادة بعد وصولهم
إلى السلطة
ــ أصدر "ثوربجورن
هاجلاند" رئيس لجنة نوبل تحذيرا لزعماء أوربا. قال "إننا بحاجة إلى
الحفاظ على التضامن عبر الحدود في الوقت الذي يقوم فيه الاتحاد بإلغاء ديون وتبني
إجراءات دعم صلبة أخرى". لعل الرهان في أوربا اليوم لا يتعلق بالسلام الداخلي
بل بالسلام الاجتماعي.
ـ عندما أنظر إلى العالم اليوم
ـ إلى أوربا، وأيضا إلى الولايات المتحدة ـ أرى القضايا الاجتماعية في منتهى
الأهمية. إنني منخرط منذ فترة في جهود لتحسين الانتخابات في أماكن كثيرة من
العالم. ولكن ما الذي يحدث بعدما يصل الناس إلى السلطة؟ قد تجري بلد أفضل انتخابات
في العالم، ولكن المهم فعلا هو الطريقة التي يتصرف بها القادة بعد وصولهم إلى
السلطة. هل تكون غايتهم الرئيسية هي تحقيق الثراء لأنفسهم أم يدفعون بسياسات
المساواة لإيجاد فرص في المجتمع؟ وأعتقد أنه لا بد من المزيد من الاهتمام بالقضايا
الاجتماعية.
ــ وكذلك كانت بدايتك لحياتك
المهنية ...
ـ التحقت بالخدمة الفنلندية
الأجنبية في أواسط الستينيات من القرن الماضي للعمل في القضايا التنموية ولم أخرج
من هذا المجال قط. فعندما تتكلم عن السلام، لا غنى لك عن الكلام في التنمية
السياسية والاقتصادية في الآن نفسه. ذلك أنه ليس ممكنا التخلص من الفقر ما لم نول
مزيدا من الاهتمام بسياسات الحكم. وسياسات المساواة أيضا مهمة في هذا الصدد ـ
فعلينا بصفة خاصة أن نمنح الجميع فرصا متساوية في التعليم الجيد والحياة المحترمة.
وهذا تحد كبير يواجه أوربا اليوم.
ــ هل يقلقك الانبعاث الجديد
للتوجهات الوطنية كما تتجلى في جماعات من قبيل "الفجر الذهبي" في
اليونان "والفنلنديين الأصليين" في فنلندا، أو البريطانيين المتشككين في
الوحدة الأوربية؟
ـ لست قلقا بصفة خاصة من حزب
الفنلنديين الأصليين في بلدي، فهو حزب مختلف عن الأحزاب الوطنية الراديكالية في
بعض الدول الأوربية اليوم. حزب الفنلنديين الأصليين يتوجه إلى كل من يشعرون أنهم
مبعدون عن القرارات السياسية، ومن يظنون أن "النخب" السياسية لا تصغي
إليهم. ولو أنهم يتبنون مشاعر عنصرية ـ على سبيل المثال ـ فسوف يخسرون دعم من لديهم
مخاوف مشروعة تتعلق بقضايا اقتصادية واجتماعية محلية. إن الكتلة الانتخابية
الأساسية لهذا الحزب تتمثل في المحبطين لا المتطرفين.
ــ يبدو أن ثمة أزمة مصداقية
عامة في السياسة الأوربية ناجمة عن عجز الحكومات والمشرعين عن الوفاء بالوعود
المقطوعة.
ـ لقد فقدت الأحزاب التقليدية الاتصال مع بعض
أجزاء المجتمع، ومن ثم نشأت أحزاب جديدة لتملأ الفراغ. ولقد رأينا هذا يحدث من
قبل، ولكنه لم يكن يستمر لفترة طويلة. فلا تكاد الأحزاب الجديدة تصبح جزءا من
البنى الحكومية، حتى تبدأ في فقدان مصداقيتها إثر تحملها مسئوليات عن قرارات لا
تحظى بالشعبية. وأنا أنظر إلى هذا بوصفه تطورا دائما في مجتمعاتنا.
ـ تصرفات ألمانيا ـ ودول أخرى
أيضا ـ إزاء فكرة القيادة الألمانية لأوربا تتسم بكثير من التناقض. ما الدور
الملائم لبلد مثل ألمانيا؟
ـ ليس بوسع ألمانيا تجنب الدور القيادي.
فهي لاعب مهم سياسيا واقتصاديا.
ــ هل أنت راض عن قيادة السيدة
ميركل؟
ـ نعم، ومسرور للغاية منها ولا
أخفي هذا. وسررت جدا عندما امتنعت ألمانيا عن التصويت في اقتراع الجمعية العامة
للأمم المتحدة على منح الفلسطينيين صفة مراقب. كان ذلك قرارا جيدا جدا لأنه عزز من
دور ألمانيا المحتمل في الشرق الأوسط وعزز من موضوعيتها.
ـ دعنا إذن نتكلم عن السياسة
الخارجية. لقد كان المفترض بمعاهدة لشبونة أن تحسن تجهيز الاتحاد الأوربي ليتكلم
بصوت واحد. ويقال إن تلك الغاية فشلت.
ـ أنا لم أتخل يوما عن فكرة أن
الاتحاد الأوربي قادر على لعب دور أكبر في السياسة العالمية. من بين الانتقادات
التي دائما ما توجه إلينا أننا نفرض القيم الغربية على العالم: قيما كالديمقراطية
وحقوق الإنسان وسيادة القانون. ولكن ما حدث في مصر وليبيا وتونس كان تطورات
تاريخية. أولئك الذين ذهبوا إلى ميدان التحرير بينوا أن هذه القيم ليست غربية،
إنما هي قيم إنسانية. الحقيقة أن الاضطرابات لم تبدأ في تونس أو في مصر، بل في
ضواحي باريس. فالذين كانوا يشكون سوء أوضاعهم المعيشية في باريس هم في أغلبهم
قادمون من دول شرقأوسطية. وليس القصد من هذا التقليل من دور الناس الذين خرجوا إلى
الشوارع نزولا سلميا في مصر، ولكنه يؤكد على أن مطالبهم ذات طبيعة إنسانية مطلقة.
ولا ينبغي أبدا أن نأسف لذلك. وعلينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية للثبات على قيمنا
والدفاع عنها، وهو ما لم يحدث في الماضي. إن الأمم المتحدة أسرفت في اتخاذ الموقف
الدفاعي، أما نحن فلا بد لنا أن نصر بمزيد من العزم على سياسات المساواة.
ــ ولكن حماس مطلع 2011 أفسح
المجال الآن لمهمة إعادة بناء السياسات ـ بعد عقود من الحكم الاستبدادي ـ على
خلفية دينية معقدة.
ـ ما كان ينبغي لنا أن نندهش
إطلاقا لفوز جماعة الإخوان المسلمين بالانتخابات المصرية. فلقد كانوا هم الكيان
الوحيد المنظم في المجتمع المصري والغرب ظل يستبعدهم إلى حد كبير من المناقشات
السياسية. وما كان ينبغي لهذا أن يحدث. في فلسطين رأينا انتخابات جيدة، ولكن فاز
بها الرجال الخطأ من وجهة نظر الغرب. وبوسعي أن أقول لك بوصفي مفاوضا من أجل
السلام إن عليكم أن تتكلموا مع الموجودين في السلطة سواء راقت لك آراؤهم أم لم
ترق.
ــ ما أهمية الإصرار على الحقوق
الشكلية formal rights ؟
ـ أهم شيء على الإطلاق هو
استمرار العملية. من قبيل الأوهام أن نتصور لمجرد وجود تظاهرات ضخمة في ميدان
التحرير أن لدينا الآن ديمقراطية في مصر. فالعملية سوف تستغرق أجيالا. ولو أننا لم
نتعلم هذا من عملية التوسع والاندماج التي نشهدها في الاتحاد الأوربي، فقد فاتنا
مغزى الدرس. ذلك أنه لا تزال هناك اختلافات بين الدول الأعضاء السبع والعشرين في
الاتحاد على طريقة عمل الديمقراطية.
ــ أوقات الأزمات قد تفضي إلى
تراجع وانعزالية. عندما كان على الدول الأوربية أن تتخذ قرارا بشأن العمليات
العسكرية في ليبيا، لم يكن ثمة إلا إجماع
وحماس.
ـ عندما قبل مجلس الأمن في
الأمم المتحدة "مسئولية الحماية" في عام 2005، كان ذلك تطورا تاريخيا.
ولا ينبغي لنا أن نقبل التدخل العسكري ما لم يكن عقوبة مفروضة من مجلس الأمن. في
حالة ليبيا، كان هذا هو الوضع، ولكن الأمر جرى بسرعة بحيث لم يتسن لكل دولة أن تجد
الوقت للتفكير بحرص فيما يتعلق بمشاركتها.
وينبغي أن نتذكر أن ليبيا كانت تمثل وضعا فريدا. ولسوف يمر وقت طويل قبل أن نرى
تغييرا مماثلا للسلطة.
ــ هل تعتقد أن الحماسة الغربية
المتمثلة في التدخل الإنساني في أواخر تسعينيات القرن الماضي ـ في عالم
"مسئولية الحماية" ـ قد خبت؟
ـ لقد حلت مسئولية الحماية بدلا
من التدخل الإنساني في قاموسي الشخصي. فهي توجه رسالة واضحة إلى أي زعيم: إذا أسأت
استخدام سلطتك وعاملت شعبك معاملة سيئة، فالمجتمع الدولي مسئول عن التدخل. ولو
أننا لم نتصرف حيال هذه الانتهاكات للسلطة، فقد تقهقرنا إلى العصر الحجري.
ــ ما الذي حدث لمفهوم السيادة؟
يبدو أنه ترك مكانه للشرعية على المسرح الدولي، وللتبعية في مناقشات مستقبل أوربا.
ـ بدلا من السيادة، بدأ الكلام
عن المسئولية. لو أن لدينا قيما نحتفي بها فلا يمكننا الجلوس في مقاعد المتفرجين.
في افريقيا، لم يفعل المجتمع الدولي شيئا، وقتلت أعداد هائلة من البشر، ولا يزالون
يتعرضون للقتل. الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن في الأمم المتحدة عليهم مسئولية
خاصة في هذا الصدد.
ــ وهل هم على مستوى المسئولية؟
ـ أنا محبط من أن مجلس الأمن
غير قادر على التعامل مع الأزمة السورية. لقد ذهبت إلى نيويورك في فبراير 2012
نيابة عن "الحكماء" لمناقشة مندوبين عن جميع الأعضاء الدائمين. كانت
الفرصة سانحة تماما للوصل إلى حل، لكن لم يتم تحويلها إلى واقع.
ــ قلت مرة إنه بغير المثالية
يمكن للسياسة أن تنزلق إلى الكلبية. ما الدور الذي تلعبه المثالية في السياسة
الأوربية والعالمية اليوم؟
ـ إذا لم تكن لديك رؤية فلا
يبنغي أن تنخرط في السياسة أو صنع السلام. يقول الناس دوما إن الوسطاء ينبغي أن
يكونوا محايدين. وهذا لغو فارغ. على الوسطاء أن يكونوا أمناء، عليهم أن يعاملوا
الأطراف المختلفة بموضوعية، وهذا صحيح في أوربا وصحيح في الشرق الأوسط، عليك أن
تعامل الإسرائيليين والفلسطينيين بموضوعية، فإن ارتكبوا شيئا غير شرعي، لا بد من
انتقادهم، وإلا فقدت مصداقيتك ولم يبق لك تأثير. أما لو حاولت أن تبقى غير منحاز،
وتركت الأطراف تتوصل إلى اتفاق بين بعضها البعض، فسوف تبقى جالسا هناك إلى آخر يوم
في حياتك، كما نرى اليوم في الشرق الأوسط.
ــ عليك أن تساوي بين جميع
الأطراف في الإساءة؟
ـ بل عليك أن تكون عازما على
انتقاد الجميع إذا خرقوا القواعد المتفق عليها. لقد اعتبرت من قبيل المجاملات أن
أطلقوا عليَّ لقب "آية الله أهتيساري" في مفاوضات أسيه.
ــ ضد من كان المجتمع الدولي
منحازا انحيازا غير عادل؟
ـ مثلا، وبوصفي عضوا في
"الحكماء" وقعت على بيان مع ماري روبنسن ضد السلع الإسرائيلية التي تأتي
من الأراضي المحتلة. ونحن كمستهلكين أوربيين لا ينبغي أن نشتري هذه السلع. فوجود
الإسرائيليين في هذه الأراضي غير شرعي، ولا ينبغي أن يستورد الاتحاد الأوربي السلع
الإسرائيلية التي تنتجها المستوطنات.
من قبيل الأوهام أن
نتصور لمجرد وجود تظاهرات ضخمة في ميدان التحرير أن لدينا الآن ديمقراطية في مصر
ــ هل الوقت ينفد أمام حل
الدولتين؟
ـ إنه الخيار الوحيد المتبقي.
ولا بد أن يكون التركيز على التحرك إلى الأمام. لو أن لدينا اتفاقية على أن حدود
1967 هي المهمة فليكن هذا. ومن الخطأ الرجوع إلى البداية لإعادة فتح هذه
المناقشات. التفاوض من أجل التفاوض ليس بتفاوض أصلا. ولكن أصدقاء إسرائيل هم الذين
يجدر بهم أن يكونوا أول الضاغطين من أجل الوصول إلى حل سلمي، لأنه لا يمكن لأحد أن
يضمن سلامة إسرائيل إذا لم يتم الوصول بسرعة إلى حل سلمي. فطالما لديك المال بوسعك
أن تشتري جميع أنواع الأسلحة. وإذن الصراع بحاجة إلى تسوية، والجميع يعرف على أية
أسس يمكن الوصول إلى التسوية.
ــ هل ترى العالم أشد فوضى
وقلقا مما كان عليه؟
ـ يمكنني القول إنه أكثر إثارة.
كان العالم أثناء الحرب الباردة أشبه بتكرار الوصايا العشر دون العمل بها. وأقول
لك بصفتي من البروتستنتيين إننا معشر المسيحيين لسنا ملتزمين دائما بالوصايا.
العالم اليوم بات أكثر تعقيدا وأكثر إرهاقا، ولكن هناك إمكانيات أكثر من ذي قبل.
ــ ومؤسساتنا الدولية، أهي على
قدر مسئولياتها أم أنها لا تزال حبيسة أطر الحرب الباردة وحكم القوى العظمى؟
ـ محزن جدا أننا غير قادرين بعد
على إدخال دول جديدة في مجلس الأمن. حتى في أوربا، لم نقدر بعد على تحديد من الذين
ينبغي أن يكونوا الأعضاء الدائمين. ومن الطبيعي أنني أقول إن ألمانيا واليابان
ينبغي أن تكونا عضوين دائمين. البنك الدولي يتصرف بصورة أكثر عقلانية بكثير من
الأمم المتحدة في تنفيذ وتغيير هياكله وطرق عمله. أما الأمم المتحدة فوضعها مؤسف
للغاية حتى أنني لم أعد أشارك في المناقشات الرامية إلى إصلاحها، ولدى أعضاء فريقي
توجيهات بالرد بأنني مشغول بأمور أكثر أهمية.
ــ في ألمانيا، تتعرض الحكومة
لانتقادات متكررة لسماحها بتصدير الأسلحة إلى الشرق الأوسط. هل تعتقد أن هناك
تبريرا لتصدير السلاح لمنطقة صراع؟
ـ عندنا قواعد دولية تحكم هذا
الأمر. لا أعتقد أنه ينبغي بيع السلاح ما علم المرء أنه سيتم استخدامه لأغراض
عدوانية. ولكنني لا أعتقد أن من الممكن وقف تجارة السلاح كلية، كما أنني أومن بحق
الشعوب في الدفاع عن أنفسها. ولكن حينما يتبين أن الأسلحة يتم استخدامها لأغراض
عدوانية، فمن الطبيعي أن نعلن فرض حظر على السلاح خاضع للرقابة.
ــ من الصعب تخيل أن ما يباع
للشرق الأوسط من أسلحة ـ ومن بينها أدوات تنصت لا تزال غير شرعية ـ سوف يتم
استخدامه حصريا في أغراض دفاعية وليس ضد منشقين.
ـ لدينا المزيد والمزيد من
وسائل التنصت أينما توجهت، حتى في مجتمعنا هذا. وفي اللحظة الراهنة ليس هذا أكثر
ما يثير قلقي. لقد سمحنا للكثير جدا من الصراعات أن تستمر في مختلف أرجاء العالم.
وفي بعض الأحيان يقول لي الناس أثناء المفاوضات: "لماذا أنت متعجل؟ لدينا
الكثير من الصراعات، فما الضرر من مجرد صراع إضافي؟" فلا أرد على هذا إلا
بقولي إنني "لا أعمل في الترويج للصراعات، ولا أنتم ينبغي أن تعملوا في هذا.
انتهى النقاش". وكان هذا بالفعل ينهي الحوار مع عدد من أصدقائي الذين لا
يكونون مهتمين كثيرا بالوصول إلى تسوية سلمية. ولكن ما الداعي إلى القتال؟ أنت
حينما تلجأ إلى رفع السلاح، تقول إنك أصبحت عديم الحجة.
نشر الموضوع أصلا ـ وكاملا ـ في مجلة ذي يوربيان ونشرت الترجمة صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق