حياة إزرا باوند في إيطاليا وما بعدها
لوسيانو مانجيافيكو
في الرابع والعشرين من مايو سنة 1945،
وجد الشاعر الأمريكي المرموق "إزرا لوميس باوند Ezra Loomis Pound " نفسه حبيس زنزانة خاصة ـ بل هي قفص في
حقيقة الأمر ـ في المركز العسكري الأمريكي للتدريب على الانضباط في ميتاتو على بعد
أميال قليلة من بيزا في إيطاليا.
كان مركز التدريب على الانضباط ذلك هو
الذي تصفه الصحف بـ "مستودع نفايات جيشنا القذرة في مسرح الشرق الأوسط"،
وكان يستخدم في احتجاز أفراد الجيش الأمريكي ممن يرتكبون مخالفات جنائية خطيرة
فينتظرون فيه المحاكمة العسكرية أو الترحيل إلى مؤسسة عقابية في الولايات المتحدة،
أو الإعدام. كان أغلب السجناء يقيمون في خيام، ولكن المشتبه في ميلهم إلى الانتحار
كانوا يعدون خطرا على غيرهم، وكذلك المشكوك في أنهم سوف يحاولون الهروب، والمحكوم
عليهم بالإعدام، فكان هؤلاء جميعا يوضعون فيما يقال له "زنازين
الملاحظة" المعروفة بين السجناء باسم "زنازين الموت". وكانت فرقة
التدريب على الانضباط رقم 7103 بقيادة المقدم جون ل ستيل ـ خريج جامعة هارفرد ـ هي
المسئولة عن إدارة المعسكر.
باوند كان المدني الوحيد هناك. وكانت
التعليمات الصادرة من جهات عليا تقضي بالإبقاء عليه تحت "رقابة دائمة وخاصة،
لمنعه من الهرب أو الانتحار. وعدم الاتصال بالصحافة. وعدم توفير أي معاملة
استثنائية".
امتثالا لهذه الأوامر، وضع باوند في
إحدى زنازين الموت في المعسكر. وكانت تلك الزنازين عبارة عن أقفاص من الحديد
الصلب، على هيئة مربع طول ضلعه ستة أقدام، وهي موضوعة في الهواء الطلق، ومكشوفة من
جوانبها الأربعة، ومغطاة من أعلى بلوح معدني، وكانت أضواء المصابيح تبقى مسلطة عليها
طول الليل، ويبقى سجناؤها معزولين، محظورا على حراسهم أن يكلموهم. وكان قفص باوند
مدعما بحديد من الذي يستخدم في تبليط ممرات الطيارات في ميدانين الحرب المؤقتة. وقيل
فيما بعد إن السبب في ذلك هو منع الفاشيين من محاولة تهريبه.
ولكي يمنعوا السجناء من محاولة
الانتحار، كانوا لا يسمحون لهم بحزام أو برباط للحذاء أو بسرير، فكانوا ينامون على
خرسانة الأرضية لا يفصلهم عنها إلا بطانية. كانوا يأكلون مرة واحدة في اليوم،
ويستعملون علبة في أحد أركان المحبس للتخلص من فضلات أجسامهم. وكانوا يسمحون
لباوند بالخروج من قفصه مرة كل ثلاثة أيام ليذهب فيستحم، ويحرك جسمه في المسافة من
محبسه وحتى حمام السجناء. لم يكن مسموحا بالكتب ولا بأية مواد صالحة للقراءة، إلا
الإنجيل. وكان من بين جيران باوند جنديٌّ بدا أنه حوكم وأدين وحكم عليه بالإعدام
فكان لا يكف من فرط يأسه عن الجهر بالسباب والشتائم. وبالطبع لم يكن باوند يعرف ما
الذي يثير جاره بهذا الشكل.
والحراس كانوا يجهلون تفاصيل أسباب
حبس باوند ـ الذي كان في ذلك الوقت على مشارف الستين ـ حبس عتاة المجرمين، فكانوا
حائرين في أمره، خاصة وأن سلوكه ـ على ما فيه أحيانا من شذوذ وخروج على المألوف ـ
كان مسالما ونبيلا وغير منطو على أي خطر.
وبعد قرابة أسبوعين في هذا الجو، وفي
السابع من يونيو تقريبا، تعرض باوند فيما يبدو لانهيار عصبي، ولا عجب وقد تعرض
لحرارة النهار ـ وكانت بين 75 و90 درجة فهرنهايت ـ في يونيو بتوسكاني، وبرودة
الليل النسبية، والغبار، وانعدام الخصوصية، والعزلة الاجتماعية. وبعد بضع سنوات،
كشف باوند عن فترة اعتقاله في بيسا:
"نعم، كانوا يعتقدون أنني شخص
خطر، لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وكنت أرى فعلا أنني أسبب لهم الرعب. كنت أحيانا
ألاحظ أن الحراس ينظرون لي نظرة القضاة. كنت أفهم من نظرتهم لي أن ’’ابق في مكانك
أيها الغوريلا!’’ وحينما كانت تنتهي وردياتهم كانوا يأتون فيبحلقون فيّ بدهشة.
وكانوا في بعض الأحيان يرمون لي قطعة لحم أو حلوى، تماما كالحيوان. إز EZ العجوز وقد أصبح فرجة".
والحق أنه كان حزينا لا خطيرا. كان من
بين قضبان قفصه، يرى في البعيد، عبر الهواء الساخن المضطرب، تلك التلال المنخفضة
القريبة من بيزا، وقد كستها مظلات من أشجار الصنوبر. وكان باوند قد رأى تلك التلال
في عام 1898، عندما جاب إيطاليا بصحبة أبويه وهو في الثالثة عشرة من العمر، ثم إنه
في عام 1923 مر بالمنطقة أيضا بصحبة "إرنست همنجواي" وزوجته، حيث قضى
الثلاثة رحلة طويلة جابوا فيها شبه الجزيرة الإيطالية.
غير أن عزلته هذه المرة جعلت عينيه
أحدَّ إبصارا للبيئة المحيطة، وأفقدته تفاؤله وخيلاءه وثقته بنفسه. وكذلك كتب في
أحد أناشيده Cantos:
وحينما يتأرجح العقل على عشبة
تنقذك بساقها الأمامية نملةٌ
وتكون لورقة البرسيم رائحة زهرته
ومذاقها.
ومع ذلك، وبرغم هذه الظروف القاسية
التي كان يعيشها، بقي الشاعر يكتب، مدونا على ورق المرحاض بعض القصائد التي جمعت
بعنوان "أناشيد بيزا
The Pisan Cantos ".
ظل محتجزا في قفصه الحديدي قرابة
ثلاثة أسابيع إلى أن أصبحت حالته المتدهورة واضحة لا سبيل إلى تجاهلها. كان قد
أصبح لا مباليا، يأكل ولكن أقل القليل، ولا يكاد يقوم من فوق البطانية.
وفي الرابع عشر والخامس عشر من يونيو،
فحصه طبيب المعسكر النفسي، فوجد دلائل فقدان للذاكرة، والاكتئاب، والاختلال العام
في التوازن. ولم يكن باوند من قبل قد أبدى اهتماما يذكر بالطب النفسي، بل وكان
يطلق على منظِّره الأكبر اسم "سجموند الدجال" مضيفا في موضع آخر أنه
"بفضل فرويد ودوستويفسكي بات لدينا الآن جيش من المخنثين، المتوترين، القلقين
لحد المرض على حيواتهم العاطفية التافهة ...". ولكنه بفضل الأطباء النفسيين
نقل إلى خيمة هرمية (من النوع الذي كان يحتجز فيه الضباط المتهمون بارتكاب جرائم)،
وسمح له بالقراءة، واستقبال زيارات من زوجته، بل وسمح له بين الحين والآخر
باستخدام الآلة الكاتبة. وهكذا واصل في الخيمة كتابة "أناشيد بيزا"
وترجمة أعمال كونفشيوس من الصينية.
أصبح باوند بطريقة ما نجم المعسكر.
صار يخترع لنفسه تمرينات رياضية، فيحاكي المبارزة ولعب التنس مستخدما عصا مقشة
قديمة، وكان مهذبا وودودا مع الحرس الذين كانوا يبادلونه رقته معهم برقة. وكان
يقول للأطباء إن الحكومة لن تقدمه مطلقا للمحاكمة بتهمة الخيانة لأن لديه
"الكثير على العديد من الناس في واشنطن"، وفيما كانوا ينقلونه من
المعسكر إلى روما تمهيدا لترحيله إلى واشنطن، وضع يديه حول عنقه، مشيرا إلى أنه
ذاهب إلى الإعدام شنقا.
بقي معتقلا في المعسكر حتى الخامس عشر
من نوفمبر، وفي ذلك اليوم أقلته الطائرة من روما إلى واشنطن لمواجهة تهمة الخيانة.
من كان ذلك الـ إزرا باوند المجهول،
البعيد كل البعد عن الشاعر المرموق الذي نصادفه اليوم في الأنطولوجيات؟ ولماذا
احتجز في قفص في توسكاني، ولماذا وجهت إليه الولايات المتحدة تهمة الخيانة العظمى؟
* * *
برغم زواجه سنة 1914 من دوروثي
شكسبير، ظلت عينا باوند على النساء، وظل لا يرى فارقا بين الإغواء والإبداع الفني.
وكانت دوروثي على علم بغراميات زوجها ولكنها آثرت تجاهلها. وفي خريف سنة 1922،
عندما كان في السادسة والثلاثين، وقعت عيناه على عازفة الكمان الأمريكية "أولجا
رودج" لتبدأ من ذلك قصة حب استمرت إلى
أن مات سنة 1972. كانت رودج عازفة معروفة تعمل في الغالب مع المؤلف الموسيقي
الإيطالي "إلدبراندو بيزيتي" وعازفة البيانو "ريناتا بورجاتي".
وقد كتب باوند ـ الذي كان يعمل ناقدا موسيقيا بين الحين والآخر ـ مقالة عن إحدى
حفلاتها، ولكن الاثنين لم يلتقيا فعليا حتى عام 1923 في بيت الكاتبة المسرحية
والروائية "ناتالي بارني". وعلى الرغم من أن باوند ورودج كانا يتحركان
في دائرتين اجتماعيتين مختلفتين، فقد التقيا على الفور جنسيا وثقافيا، بل إن رودج عزفت
موسيقى ألفها باوند. في عام 1924 يشعر آل باوند بالتعاسة في باريس فيقررون
الانتقال إلى إيطاليا. وفي أواخر 1924 أو مطلع 1925 كانوا في صقلية يسافرون برفقة
الشاعر الأيرلندي "دبليو بي يتس" وزوجته "جورجي هايدليس" ولكنهم اتجهوا
بتوصية من همنجواي إلى الشمال حيث عاشوا في رابالو وهي بلدة تقع في ريفييرا
ليجواريا إلى الشرق من جنوا. كانت رابالو بسبب لطفها واعتدال جوها مقصدا أثيرا لدى
الكتاب والفنانين. فمن بين من عاشوا هناك في القرن العشرين، نذكر همنجواي وييتس
وإليوت وجيرهارد هاوبتمان وماكس بيربوم وجامس لافلين.
ولقد قال باوند ـ الذي سبق له أن عاش
في إيطاليا ـ لأحد أصحابه إن "إيطاليا هي مكاني الذي أبدأ فيه الأشياء".
بسرعة استأجر باوند شقة في أعلى بالاتسو باراتي ـ
وهي عمارة شاهقة تطل على البحر (كان المدخل إلى شقتهم يقع في شارع خلفي هو
شارع فيا مارسالا) وعاشا هنالك حتى عام 1944. وقد كتب ييتس الذي انتقل إلى رابالو
سنة 1928 يقول:
"إزرا باوند ... رجل كان ينبغي
أن أتشاجر معه أكثر مما تشاجرت مع أي شخص آخر لو لم توجد بيننا عاطفة، لو لم نعش
سنوات في شقتين تشتركان في سطح واحد مطل على البحر. وكنا نجلس في السطح وهو أيضا
حديقة نتناقش في القصيدة الهائلة التي كان قد نشر منها سبعة وعشرين نشيدا".
لحقت أولجا بباوند في رابالو واستمرت
علاقتهما، حيث كان باوند يزورها كثيرا بينما يعيش مع زوجته دوروثي. وسرعان ما حبلت
أولجا وأنجبت في التاسع من يوليو سنة 1925 طفلة هي ماري باوند (التي تسمت بعد ذلك
بماري دو راشفيلتز). ولكي تضع سرا، سافرت إلى بريسانوني في جنوب تيرول وتركت
الطفلة في قرية جاييس مع امرأة تتكلم الألمانية كان الموت قد سلبها ابنها. وافقت
المرأة على رعاية الطفلة ماري في مقابل مائتي ليرة في الشهر، فبقيت عندها حتى بلغت
العاشرة تقريبا.
وأخيرا فاض بدوروثي من سلوك زوجها فتركته
ورحلت لفترة طويلة، قضتها مع أمها في سيينا، وفي مصر التي عاشت فيها بين ديسمبر
1925 ومارس 1926، ولا بد أنها كانت على علاقة في مصر بمصري مجهول، إذ أنها حبلت.
ثم ذهبت إلى باوند في باريس في يونيو 1926 لحضور أوبرا Le Testament de Villon التي كتبها، ولكنها بقيت في باريس بعدما رجع
باوند إلى إيطاليا. وحينما جاءها المخاض، كان همنجواي هو الذي اصطحبها إلى
المستشفى الأمريكي في باريس حيث أنجبت "عمر شكسبير باوند" في سبتمبر.
والظاهر أن دوروثي باوند ـ شأن أولجا رودج ـ لم يكن لديها صبر وجلد على الأمومة
فعهدت بالولد إلى أمها أوليفيا في انجلترا إلى أن بلغ من العمر ما يكفي لإلحاقه
بمدرسة داخلية.
في الوقت نفسه، كانت أولجا رودج لا
تزال على علاقتها بباوند، وكانت تقيم في فينسيا في بيت صغير منحها أبوها إياه في
عام 1928. وكان باوند يزورها هناك كلما أمكنه ذلك، فقد كانت الرحلة من رابالو إلى
هناك بطول 168 ميلا، وكان يطلق على بيت فينسيا اسم "العش المخبوء". وفي
عام 1930 استأجرت رودج أيضا شقة في حي سان أمبروجيو الواقع على تل مشرف على رابالو،
وهي الشقة التي سميت بـ "كاسا 60" نسبة إلى رقم الشارع الذي كانت فيه.
وهنالك عاشت رودج على فترات متقطعة فيما بين 1930 وحتى 1985، وأسكنت معها إزرا
ودوروثي في الفترة من 1944 إلى 1945. كانت شقتها في الطابق الثالث، وكانت في
الطابق الأول معصرة زيت زيتون. وفي حين يمكن الوصول اليوم إلى البيت ـ الذي أصبح
ملكية خاصة ـ بالحافلة العمومية، فإن الوصول إليه أيامها لم يكن ممكنا إلا بطلوع
التل على القدمين عبر ممر ضيق، في رحلة مرهقة تستغرق نصف ساعة من ساحل رابالو.
وكان البيت خاليا من وسائل الرفاهية العصرية، حتى أن الكهرباء لم تكن وصلت إليه.
واستمرت أولجا في مسيرتها الموسيقية.
في فبراير سنة 1927، التقت أولجا
بالدكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني الذي كان هو الآخر عازف كمان لا بأس به،
وتناقش الاثنان في الاختلافات بين موسيقى الكمان وموسيقى البيانو. وابتداء من عام
1931، كانت هي وباوند ينظمان حفلات ويعزفان في "كونسيرتي تيجولياني" في
رابالو. وقد أتاحت تلك الحفلات لرودج وباوند إحياء موسيقى الفينيسي شبه المنسي في
ذلك الوقت "أنطونيو فيفالدي"، وتقديم رباعيات بيلا باتروك الوترية
للجمهور الإيطالي، وعزف مؤلفات باوند الموسيقية جماهيريا.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية العصيبة في
أربعينيات القرن الماضي، عانى عازفو الموسيقى مثل غيرهم، فعملت أولجا في سيينا في
عام 1933 سكرتيرة لأكاديمية شيجيانا الموسيقية وهي مركز للدراسات الموسيقية
المتقدمة أسسه الكونت "جيدو شيجي ساراسيني" سنة 1931. وبدأت رودج ـ بمساعدة
بين الحين والآخر من باوند ـ في نسخ المخطوطات الأصلية لموسيقى فيفالدي، وفي ثنايا
ذلك تعرفت على نحو ثلاث مائة قطعة جديدة، وأسست سنة 1938 مركز الدراسات الفيفالدية
داخل أكاديمية شيجيانا.
لم يكن إزرا باوند في ذلك الوقت شاعرا
جليلا وناقدا أدبيا رفيعا وحسب، بل باحثا في الموسيقى ومؤلفا موسيقيا، وكان يعتبر
نفسه متخصصا في الاقتصاد السياسي والسياسات النقدية، وهي قناعات أفضت به إلى أن
يرى أن هناك مؤامرات تسيطر على النتاج الاقتصادي ونظم التمويل في الدول
الرأسمالية، كما أفضت به إلى فاجعة مناصرة الفاشية كنظام سياسي قادر ـ نظريا ـ على
الوقوف في وجه شطحات السوق الحرة.
باتت تسيطر عليه مسألة التحكم في
المعروض النقدي ومعدلات الفائدة واحتج على نخبة وول ستريت التي كانت تتسبب ـ حسب
ما رأى ـ في الكساد وتقف في وجه تعافي الاقتصاد في الولايات المتحدة. ولما كان
كثير من الشخصيات الرئيسية في الأسواق المالية ذوي أصول يهودية، فقد تحول باوند
بسهولة إلى معاداة السامية. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، زعم باوند أنه كان
يقصد تعليم موسوليني الشئون الاقتصادية، وقال
فيما بعد للشاعر "ألن جنسبرج" إن "غلطتي الكبيرة هي معاداة
السامية الغبية، هي التي أفسدت كل شيء". وقد أعرب "جيسيبي بريزوليني"
ـ الكاتب الإيطالي الذي عاش في إيطاليا الفاشية وفي الولايات المتحدة ـ عن اعتقاده
بأن "العم إز" كان يعرف عن الإيطالية أقل مما كان الفاشيون يعرفون عنه
كشاعر.
كانت آراء باوند الاقتصادية مستقاة من
كتابات عالم الاقتصاد الألماني سلفيو جيزيل الذي عمل لفترة وجيزة للغاية وزيرا
للمالية في حكومة بفاريا اليسارية، كما كانت مستقاة من الميجور "كليفورد إتش
دوجلاس" وهو رجل إنجليزي كان يشيع أفكار فلسفة اقتصادية أطلق عليها اسم الدين
الاجتماعي. ومن الأركان الأساسية في هذه المعتقدات أنه ينبغي فرض ضرائب نظامية على
النقود بحيث ينتفي الدافع إلى اكتنازها. ولم يجر تطبيق سياسات الدين الاجتماعي
النقدية ـ على نطاق واسع ـ تطبيقا جزئيا إلا في مقاطعة ألبرتا بكندا في الفترة من
1932 إلى 1935.
في كتاباته الاقتصادية مثل "ألف
باء الاقتصاد" (1933) و"الدَيْن الاجتماعي، ما جدوى النقود؟"
(1935)، وصف باوند مسئولي البنوك بأسماك القرش واتهمهم بالتسبب في انحدار
الديمقراطية الأمريكية، وصوَّر الرئيس الأمريكي "فرانكلين ديلانو روزفلت"
بأنه أضحوكة وول ستريت وأقرب ما يكون إلى دكتاتور للولايات المتحدة. وأوضح باوند
أن:
"التاريخ ـ مثلما يراه علماء
الاقتصاد النقدي ـ صراع مستمر بين المنتجين وغير المنتجين ومن يحاولون أن يكسبوا
لقمة عيشهم بأن يحشروا نظاما محاسبيا زائفا بين المنتجين وحقهم العادل ... يتحرك
المرابون عبر الاحتيال والتزييف والتخريف وقوة العادة وحينما لا تنجح كل هذه المناهج،
يطلقون حربا. إن كل شيء يدور حول الاحتكار، والاحتكارات بالذات تدور حول الاحتكار
النقدي الوهمي العظيم".
أدان باوند التعاون بين الحكومة ورجال
المال، فذلك التعاون كان يسمح لهم ـ فيما يرى باوند ـ أن يخدعوا الجمهور، من خلال
"الاحتكار النقدي". وليس من الممكن أن يوجد احتكار بغير دعم من الحكومة،
والاحتكارات النقدية بالذات طفيلية للغاية، فهي لا تنتج سلعا ملموسة.
في أوربا الثلاثينيات من القرن
الماضي، ومع وجود طاغيتين في ألمانيا وفي إيطاليا، لاحظ باوند أنه في ظل توجيه
الدولة وسيطرتها شبها المباشرة على العمل المصرفي والأنشطة الاقتصادية، تراجعت
مستويات البطالة والتضخم، وازداد الإنفاق العام في مجالات التعليم والصحة وغيرها
من الخدمات الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن باوند لم يكن فاشيا
صريحا، كان متعاطفا مع نظرياتها وأغلب ممارساتها. ولما كان باوند قد درس في
عشرينيات القرن العشرين النظريات الثقافية التي قال بها عالم الإثنيات الألماني "ليو
فوربنيوس" والذي كان يعتقد أن الثقافة نتاج لأعراق معينة، فقد خلص باوند إلى
أن موسوليني هو التجسيد العبقري للثقافة الإيطالية: فهو الذي أطاح بكبار الملاك
الجشعين، وجعل من السياسة فنا، وساند إحياء الثقافة. ولقد أكد أن "موسوليني
قال لشعبه إن الشعر ضرورة من ضرورات الدولة، فأظهر بذلك بأن في روما من الحضارة
الرفيعة ما لا يرقى إليه ما في لندن أو واشنطن".
ظل باوند يضع عينه على موسوليني لوقت
طويل راجيا أن يتخذ منه قناة لإشهار أفكاره الاقتصادية وربما تبنيها. وبعد شهر واحد
من تولي موسوليني السلطة في الثالث والعشرين من ابريل سنة 1923، طلب باوند مقابلة
الدوتشي، فلم يلق طلبه إلا التجاهل.
وفي وقت لاحق من فبراير سنة 1927 عزفت
أولجا رودج في حفل أقيم بمقر إقامة موسوليني. ومن الملاحظ أن الدوتشي كان عازف
كمان منافسا، وكان يستمتع بالموسيقى. وقد ذكر معاصر للحدث من يونجستناون بأوهايو ـ
التي ولدت فيها أولجا ـ أن "موسوليني أثنى على الآنسة رودج وتكنيكها وإحساسها
الموسيقي قائلا إنه من النادر أن يرى المرء هذا النبرة من العمق والدقة ’لا سيما
من امرأة’". وفي تلك اللحظة واتت باوند فكرته العظيمة بإمكانية استمالة
موسوليني لدعم الكتاب والفنانين الطليعيين.
في ديسمبر سنة 1932، حاول مرة أخرى أن
يطلب مقابلته، مرفقا مع طلب المقابلة نسخة من سيناريو فيلم كتبه عن نشأة الفاشية، فلم
يلق هذا الأسلوب أيضا إلا التجاهل، ولكن بعد أيام قليلة طلب باوند المقابلة،
منتويا أن يعرض على موسوليني مقالة كتبها ردا على صحيفة أمريكية انتقدت أفكار
موسوليني، وهي مبسوطة في كتاب "إيميل لودفيج" بعنوان "محاورات مع
موسوليني". وفي هذه المرة نجح باوند، وفي السادس عشر من فبراير سنة 1933
التقى الشاعر والطاغية.
عرض باوند على موسوليني بعض أناشيده
وفرح عندما رأى موسوليني أن القصائد "مسلية"، بل إنه في واقع الأمر خلّد
تعليق الدوتشي العابر في النشيد الحادي والأربعين حيث يقول:
قال الزعيم "ولكن هذا" [ما
كويستو
Ma questoفي
الأصل]
"هذا ظريف" [إي ديفرتينتي é divertente]
هكذا التقط المغزى قبل أن يصل إليه
علماء الجمال
تكلم باوند أيضا عن دراساته الصينية
ومفهوم كونفشيوس الذي يرى أنه من أجل وصول المرء إلى تصحيح تعريفاته وتوضيح
أفكاره، فلا بد له من "صياغة النظام كلاما". ولم يفهم موسوليني ما قاله
باوند فسأله "ولماذا تود أن تضع نظاما في أفكارك؟" فرأى باوند في الرد
دقة ولطفا.
اقتحم الدوتشي باوند، وبين حين وآخر
كان باوند يرسل إليه نسخا من كتاباته مصحوبة باقتراحات بتغييرات سياسية أو
اقتصادية. وفي كتاب صدر عام 1935 بعنوان "جيفرسن و/أو موسوليني" قارن
باوند بين الدوتشي وتوماس جيفرسن مؤكدا:
"إنني لا أعتقد أن أي تقييم
لموسوليني يصلح ما لم يبدأ من حبه للبناء. عامِلوه معاملة الفنان فحينئذ ترون كل
تفصيلة وقد استقرت في مكانها الملائم ... لقد كانت الغاية من الثورة الفاشية هي
الحفاظ على حريات معينة، وعلى ثقافة ...".
في يوليو من عام 1935، أرسل باوند
إليه نسخة من "جيفرسن و/أو موسوليني" مع مقترح بتأسيس عصبة جديدة للأمم.
فقام سكرتير موسوليني برفع المقترح إلى الدوتشي معلقا عليه بقوله "إنه مقترح
شاذ تفتق عنه ذهن ضبابي منبت الصلة تماما بالواقع. ومراعاة لمحبة باوند لإيطاليا،
والحماسة التي تدفعه، يكفي إخطاره أن مقترحه المثير للاهتمام قيد الدراسة".
إحدى رسالات باوند ـ التي قرأها
الدوتشي ـ كانت مؤرخة في العاشر من مايو سنة 1943 وتكلمت عن الإصلاحات النقدية
التي كان يناصرها جيزيل ودوجلاس. طلب الدوتشي من مساعديه إيجاز ما يتكلم عنه
باوند، غير أن الرسالة لم تلق متابعة كافية في ظل ظروف الحرب الفوضوية. من الواضح
أن الفاشيين لم يروا في باوند مصدرا للأفكار السياسية، بل أداة بروباجندا نافعة ضد
أعدائهم.
وبرغم أن باوند كان طوال الوقت خارجا
عن العادي والمألوف، لاحظ أصحابه القدامى الذين كانوا يترددون عليه في رابالو في
منتصف الأربعينيات أن شخصيته قد انعطفت انعطافة حادة إلى الأسوأ. أصبح لا يتسامح
مع من يخالفونه الرأي وباتت نرجسيته غرورا، فلم يعد يرى أن شعره وحسب هو الجدير
بلفت الأنظار، بل وآراءه الاقتصادية والسياسية أيضا. وظن "جيمس جويس"
وغيره أن باوند قد يكون أصيب بالجنون، فقد أكد الشاعر البريطاني "روبرت
فيتزجيرالد" الذي كان يعرف كتابات باوند تمام المعرفة في تلك الفترة أن باوند
"بات يبدو شخصا منفصلا ... وما كان يبدو لديه من بهجة رفيعة بل وأولمبية بات
يبدو طفوليا حائدا عن الهدف. ولا يمكن إلا لمن يعمل في عزلة متجاهلا النقد أو غافلا
عنه أن يعجز عن رؤية ضعف الحجة وتهافتها".
في ابريل من عام 1939، أبحر باوند من
إنجلترا ـ التي ذهب إليها لحضور جنازة حماته ـ إلى نيويورك، راجيا أن يذهب إلى واشنطن
ويتكلم مع الرئيس ليقتعه بالبقاء بمعزل عن التورط في الحرب الموشكة في أوربا. وفي
واشنطن، لم ير الرئيس لكن التقى ببعض أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ الذين قابلوا
أفكاره بشيء من البرود. وفي يونيو من عام 1939، عاد إلى إيطاليا وواصل حملته باذلا
كل ما في وسعه للحيلولة دون تورط الجيش الأمريكي في الصراع المخيم على أوربا، ذاهبا إلى أن رجال المال هم
المسئولون عن الحرب الآتية وأنه لا يستفيد من الصراعات إلا المصرفيون الدوليون.
وبعد شهور قليلة من دخول إيطاليا الحرب
العالمية الثانية (في يونيو 1940)، بدأ باوند ـ بملء إرادته ـ يكتب للإذاعة
الإيطالية الموجهة إلى الولايات المتحدة. كان موظفو وزارة الثقافة الجماهيرية
الإيطالية يقرأون كتاباته بالإنجليزية. وابتداء من يناير سنة 1941، وعلى الرغم من
معارضة الـ سيم SIM (جهاز المخابرات العسكرية الإيطالي) الذي
كان يظن أن باوند جاسوس أمريكي، سمح لباوند بتسجيل خطبه بصوته، وصارت تبث مرتين في
الأسبوع ابتداء من الحادي والعشرين من يناير سنة 1941 وحتى الخامس والعشرين من يوليو سنة 1943، يوم
أطاح الملك بموسوليني فزج به في السجن.
إجمالا، ألقى باوند مائة وخمسة وعشرين
حديثا إذاعيا يتراوح طول الواحد منها بين عشر دقائق وخمس عشرة، وكان يحصل ـ بحسب أسعار
العملة السائدة في ذلك الوقت ـ على ما بين اثني عشر إلى عشرين دولارا عن كل حديث.
وكان ذلك هو مصدر دخله الوحيد خلال تلك الفترة إذ تعذر إرسال عائدات كتبه إليه في
إيطاليا، سواء كتبه المنشورة في الولايات المتحدة أو في إنجلترا. كان باوند يكتب
أحاديثه ويتدرب على إلقائها في رابالو أمام أولجا في "كاسا ستين". ثم
يسافر إلى روما مرة في الشهر ليقيم هناك أسبوعا يسجل فيه أحاديثه على أسطوانات في استديوهات
وزارة الثقافة الجماهيرية (وهي مغالطة في التسمية، فالوزارة كانت مسئولة عن
البروباجندا ورقابة الصحف) في شارع فيا فينيتو 56، أي على بعد خطوات من المقر
الحالي للسفارة الأمريكية. كانت أحاديثه تغطي العديد من المحاور: السياسية
والاقتصادية والثقافية والتاريخية، وتوشيها جميعا ذكريات شخصية واستشهادات شعرية.
كان إلقاؤه بسيطا وعفويا، يستعين فيه بالسكتات وتقليد الأصوات، فكان عرضا حقيقيا
وفعالا، على الرغم من أن تدفق المواضيع كان كفيلا بإرباك المستمع وإصابته بالحيرة.
يكتب تشارلز نورمن وهو ممن ترجموا
لحياة باوند يقول إن "باوند استغل موهبته في تقليد الأصوات، واستمتع بدور
الشارح الهوائي وفيلسوف الشوارع، وأدى كثيرا من أحاديثه بنسخ مسرحية من لهجات
أجزاء أمريكا المختلفة، فإذا أدى لهجة اليانكي خرجت الأصوات أنفية بصورة لم تحدث
من قبل في بوسطن، وإذا أدى باللهجة الغربية فاق في عاميته أي شيء سمع يوما إلى
الغرب من الميسيسيبي، وهو ما قد يكون له من الدلالات الكثير. أما إذا أدى بلهجات
بنسلفانيا الواضحة فهو هنا مهين، وبذيء إلى درجة لا تصدق من رجل في مثل خلفيته
ثقافته".
كان باوند في أحاديثه الإذاعية يثني
بصفة عامة على موسوليني، ويناصر نظام الدَيْن الاجتماعي النقدي ويكيل النقد
لفرانكلين روزفلت وتشرشل وبنك إنجلترا بل والمؤلفين الموسيقيين الذين يكرههم مثل
بوتشيني وبيتهوفن.
كانت أحاديث باوند ـ التي يستهلها بقوله
"أوربا تناديكم! إزرا باوند يحدثكم!" ـ جزءا من برنامج "الساعة
الأمريكية" الذي كان يخرجه المواطن الأمريكي المولود في روما "جيورجيو
نيلسن بيج" الذي ينحدر من أسرة مرموقة في فرجينيا كان من بين أبنائها أدميرال
البحرية الكونفدرالية "روبرت ل. لي" والكاتب والسفير الأمريكي لدى
إيطاليا "توماس نيلسن بيج". كان أبو جيورجيو بيج موظفا كبيرا في بنك
بروما وأمه كانت إيطالية. أما بيج نفسه فقد تخلى عن جنسيته الأمريكية سنة 1933
وأصبح أكثر فاشية من الفاشيين، وتدرج في المناصب حتى أصبح المسئول عن الصحفيين
الأجانب في إيطاليا.
كانت وزارة الثقافة الجماهيرية تحب
أسلوب باوند البسيط الواثق الإيجابي إذ يؤكد أن لدى الولايات المتحدة كفايتها من
المشكلات الداخلية وينبغي أن تبقى بعيدا عن شجارات أوربا. ولكن كثيرا من أصدقائه
في الولايات المتحدة وجدوا أحاديثه هذه محيرة، خطابية، شديدة الفظاظة أحيانا،
ومقززة بين الحين والآخر. وكان غالبا ما يلي أحاديث باوند بث للموسيقى الكلاسيكية.
ومن المفارقات، أن الموسيقى التي تلت واحدا من أعنف أحاديثه وأشدها ثناء على
نظريات هتلر العرقية ـ في الثامن عشر من مايو سنة 1942 ـ كانت مأخوذة من أوبرا مفستوفيليس
لـ أريجو بويتو.
بعد واقعة بيرل هاربر وإعلان إيطاليا
الحرب على الولايات المتحدة (في الحادي عشر من ديسمبر سنة 1941) تغير وضع باوند
القانوني بقسوة، فلم يعد مواطنا فردا يمارس حقه في حرية التعبير، بل أمريكي يعيش
في بلد معاد ويحتمل أنه يمد العدو بالعون. وخلافا للأجانب من مواطني الدول
المعادية في إيطاليا، لم يتعرض باوند للطرد أو الاعتقال، بل واصل حياته وروتينه،
منفقا ثلاثة أسابيع من كل شهر في رابالو وأسبوعا في روما، مسجلا أحاديثه ومصاحبا
أمثال المؤلف الموسيقي جيانكارلو مينوتي والفيلسوف جورج سنتيانا، وأولفيا روزيتي
أجريستي ابنة الصحفي الإنجليزي وليم روزيتي وابنة أخت الشاعر دانتي جابرييل
روزيتي، والصحفي الأمريكي المتوهج رينولدس باكارد.
ولم يطرأ على الأحاديث الإذاعية إلا
تغير واحد فيما بعد بيرل هاربر، وهو المقدمة التي ترد على لسان المذيع:
"إن الإذاعة الايطالية، اتساقا
منها مع السياسة الفاشية التي تقضي باحترام حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي لكل
الجديرين بهما، واتباعا لتقاليد حسن الضيافة الإيطالية، تقدم للدكتور إزرا باوند
ميكروفونها مرتين في الأسبوع. وبديهي أن أحدا لن يطلب منه أن يقول أي شيء يتعارض
مع ضميره، أو أي شيء لا يتسق مع واجباته بوصفه مواطنا من مواطني الولايات المتحدة
الأمريكية".
ظن باوند أن تلك المقدمة تحصنه من
الاتهام الجنائي في وطنه، لكن خاب ظنه. وزعم أيضا أنه حاول مرات عديدة مغادرة
إيطاليا والرجوع إلى الولايات المتحدة ولكن خابت محاولاته إما بسبب السفارة
الأمريكية أو جهات أخرى، ومن الصعب القطع بما إذا كانت هذه الجهود حقيقية، ولكن
ربما بالفعل كان باوند محمولا على البقاء بضغط من وجود أبويه المسنين في رابالو
وعدم قدرتهما على القيام برحلة شاقة، فكانا سيضطران إلى البقاء إن هو قرر السفر.
كان أبوه البالغ من العمر ثلاثة وثمانين عاما يعاني من كسر في الفخذ ألزمه البيت
لم يغادره لمدة سنتين، وأمه كانت في الثانية والثمانين.
وفي حين أن قليلا جدا من الأمريكيين
هم الذين ربما كانوا يهتمون بدردشات باوند نصف الأسبوعية، كانت الهيأة الأمريكية
لمراقبة البث الأجنبي تنصت، وتسجل، وتترجم أحاديثه، غير متحرية الدقة طول الوقت.
وفي الخامس والعشرين من يوليو سنة 1945، وجهت هيئة المحلفين الفدرالية الكبرى في
واشنطن لإزرا باوند تهمة الخيانة. وأكد
الاتهام على أن باوند قام "عن علم، وقصد، وعزم، وفي مخالفة للقانون، وفي
خيانة شريرة آثمة، بالالتزام تجاه أعداء للولايات المتحدة، ونعني، المملكة
الإيطالية".
عرف باوند بأمر الاتهام الموجه إليه
في غضون أيام، وفي الرابع من أغسطس سنة 1943 وجه إلى النائب العام في الولايات
المتحدة رسالة يزعم فيها براءته من التهمة المنسوبة إليه:
إنني لا أتكلم فيما يتعلق بالحرب ...
ولكني أحتج على نظام يخلق الحرب تلو الحرب ... إنني لم أتوجه بكلامي إلى قوات الجيش
ولا اقترحت على القوات أن تتمرد أو تثور، وإن فكرة حرية التعبير تغدو أضحوكة إذا
هي لم تشمل حق البث الإذاعي".
ولم تلق الرسالة ردا من النائب العام.
في الوقت نفسه، وفي الخامس والعشرين
من يوليو سنة 1943، سقط موسوليني وتم اعتقاله، وفي الثامن من سبتمبر غيرت إيطاليا
الجانب الذي تناصره في الحرب. وأقام موسوليني ـ الذي حررته قوات هتلر الخاصة ـ جمهورية
اشتراكية في شمال إيطاليا، هي الجمهورية المشهورة بـ ريبوبليكا دي سالو في مدينة
صغيرة على سواحل بحيرة جاردا كان فيها مكتب للدوتشي السابق.
غادر باوند روما ـ التي كان موجودا
فيها في الخامس والعشرين من يوليو ـ وتوجه إلى تيرول حيث كانت تعيش ابنته الصغيرة
ماري. وبعد مقام قصير هناك، رجع وإياها إلى رابالو وترك هو ودوروثي شقتهما في
المدينة وانتقلا ليقيما مع الحبيبة أولجا في كاسا 60. وبطبيعة الحال، لم تنسجم
المرأتان، الزوجة والحبيبة، ولكن دواعي الحرب لم تترك لهما خيارا إلا الاستمرار.
كان باوند يعتبر الذين أطاحوا بموسوليني خونة، فسرعان ما التزم بقضية حكومة
موسوليني الجديدة، وواصل بث أحاديثه الإذاعية بين الحين والآخر. بل إنه كتب لغيره
في الإذاعة، وكتب مقالات في الصحف، ومنشورات دعائية، وكان يحصل على راتب مقداره
ثمانية آلاف ليرة في الشهر. ومن بين هذه المنشورات منشور صدر بالإيطالية في الرابع
والعشرين من مارس سنة 1944 تحت عنوان "الولايات المتحدة، وروزفلت، وأسباب
الحرب الحالية". وكانت هناك اتصالات متواترة بينه وبين وزير الثقافة
الجماهيرية فرناندو ميزاسوما، الذي لم يكن ينصحه فقط فيما يتعلق بالبروباجندا، بل
ويزعجه بطلب إعادة طبع الكتب التي يحبها، ومن بينها ترجماته الخاصة للنصوص
الفلسفية الصينية.
وفي الولايات المتحدة، في الرابع
والعشرين من يناير سنة 1945، رفعت إلى وزير الحرب هنري ل. ستيمسن مذكرة مفادها أن
الولايات المتحدة لا تزال مهتمة باعتقال باوند والتحقيق معه في ضوء اتهام المحلفين
له. وفي التاسع من فبراير، وجه ستيمسن نسخة من الرسالة إلى الجنرال جاكوب ل ديفرز وكان
إذ ذاك رئيسا لأركان مسرح العمليات في شمال أفريقيا. وبدوره وزع ديفرز المعلومات
على مرءوسيه وأخطر واشنطن بذلك، لكن الحلفاء في ذلك الوقت كانوا يتقدمون بصعوبة في
وسط شمال إيطاليا محاربين الألمان الذين ينسحبون ببطء، متلكئين في كل خطوة، فلم
تكن مسألة اعتقال باوند تمثل أولوية لجيش الولايات المتحدة.
في ابريل، نفذت القوات الأمريكية
إنزالا في الريفيرا الإيطالية، ولم ينته الشهر إلا وهي تسيطر على رابالو. وفي
الثامن والعشرين من ابريل، حدث لموسوليني وحبيبته كلارا بيتاتشي وبعض من خلصائه
ومن بينهم صديق باوند الوزير ميزاسوما أن لقوا مصرعهم على أيدي الثوار، وفي الثاني
من مايو وافق قائد القوات الألمانية في إيطاليا على الاستسلام. وكان على باوند أن
يأسى على نهاية موسوليني في النشيد الرابع والسبعين:
مأساة الحلم الهائلة على كتفي الفلاح
المنحنيين
هكذا هما بينتو وكلارا في ميلانو
كان باوند يعرف أن عليه هو الآخر أن
يستسلم، فخرج من كاسا 60 في صباح الثاني من مايو متوجها إلى وحدة الجيش الأمريكي
في رابالو بهدف تسليم نفسه. وفي مكتب القائد، لم يجد ثمة من يعرفه أو يبالي به،
فقفل راجعا، صاعدا التل إلى كاسا 60.
في الصباح التالي، وفيما كانت أولجا
خارج البيت طلبا للطعام، ودوروثي في زيارة لحماتها، أقبل الثوار وقد ظنوا أن هناك
مكافأة مرصودة لمن يلقي القبض على باوند، فاقتحموا كاسا 60، وأخذوا الشاعر معهم
إلى بلدة زوجالي القريبة التي كان فيها مكتب من مكاتب قيادة الثورة. ولما قال لهم
أحد الضباط إنه ما من مكافأة مرصودة لاعتقال باوند، أطلقوا سراحه، ولكنهم عادوا
فاصطحبوه هو وأولجا ـ التي انضمت إليه ـ إلى القيادة الأمريكية في بلدة لافاجنا
القريبة. وهناك تم التعرف على باوند حينما قال "هالو، أنا إزرا باوند، أعتقد
أنكم تبحثون عني"، وفي هذه المرة تم احتجازه ثم ترحيله إلى مكتب قوات
المخابرات الأمريكية المضادة في جنوة. وهنالك حقق معه عميل المباحث الفدرالية
الأمريكية فرانك ل أمبرين بعدما كلفه مدير المباحث الفدرالية جيه إدجار هوفر بجمع
الأدلة النهائية اللازمة لمحاكمة باوند بتهمة الخيانة. أما أولجا التي لم يكن ثمة
اتهام موجه إليها فتم إخلاء سبيلها وأعيدت إلى كاسا 60 في رابالو. في الخامس من
مايو طلب باوند الإذن بإرسال برقية إلى الرئيس هاري س ترومان ليقدم له النصيحة ويساعده
في مفاوضات السلام الجارية في اليابان. وبالطبع قوبل طلبه بالرفض.
في الثامن من مايو، قال باوند لصحفي
من فيلادلفيا ريكورد استطاع الوصول إليه في الوحدة العسكرية إن هتلر "هو جان
دارك، هو قديس" وإن موسوليني "شخص معيب فقد عقله". وقدم لأمبريني
إفادة من ست صفحات عن أحاديثه الإذاعية خلال الحرب.
في الرابع والعشرين من مايو، أقلت
سيارة جيب باوند من جنوة إلى مركز التدريب على الانضباط في ميتاتو، مغلل اليدين
طوال الرحلة. وفي السادس عشر من نوفمبر سنة 1945، نقل إلى روما ووضع على طائرة إلى
الولايات المتحدة لتبدأ المحاكمة.
في السادس والعشرين من يوليو سنة
1943، تم توجيه تهمة الخيانة لباوند وسبعة مواطنين آخرين كانوا يبثون من ألمانيا
أثناء الحرب. ولم يحدث إلا لثلاثة فقط من المجموعة أن حوكموا وأدينوا وقضوا عقوبة
في السجن. ولأن أنشطة باوند في الفترة من يوليو 1943 إلى مايو 1945 اعتبرت خيانة،
ولأن الاتهامات القديمة لم تعد مناسبة لأنشطته الإيطالية، فقد جددت وزارة العدل في
السادس والعشرين من نوفمبر سنة 1945 اتهاماتها بالخيانة وجرائم أخرى. حيث رأت
الوزارة أن التهم الجديدة التفصيلية أقدر على إنهاء القضية بنجاح.
في السابع والعشرين من نوفمبر، تم
استدعاء باوند للمحاكمة، ولكن تم تأجيل الإجراءات إلى حين عرض المتهم على أربعة
أطباء نفسيين وإطلاع القاضي بوليثا جيمس لوز على مدى ملاءمة باوند طبيا للمحاكمة.
ولقد انتهت تقارير الأطباء الأربعة إلى عدم صلاحية باوند للمحاكمة، فقام القاضي
بتأجيل الإجراءات محولا باوند للحبس في مستشفى سان إليزابث للأمراض العقلية.
لا شك أن اتهام شخص بالخيانة في ظل
قانون الولايات المتحدة مسألة بالغة الصعوبة. فالخيانة هي الجريمة الوحيدة المسجلة
في نص يتضمنه الدستور الأمريكي، حيث ينص القسم الثالث من المادة الثالثة على ما يلي:
"جريمة الخيانة بحق الولايات
المتحدة لا تكون إلا بشن حرب عليها، أو بالانضمام إلى أعدائها وتقديم العون
والمساعدة لهم. ولا يدان أحد بتهمة الخيانة إلا استناداً إلى شهادة شاهدين يشهدان
على وقوع نفس العمل الواضح النية، أو استناداً إلى اعتراف في محكمة علنية ... وللكونجرس
سلطة تحديد عقوبة جريمة الخيانة. ولكن لا يجوز الاقتصاص من نسل المتهم أو أقاربه
أو تجريده من حقوقه المدنية أو مصادرة أمواله وممتلكاته إلا أثناء حياته"[i].
لقد عمد الآباء المؤسسون إلى أن تكون
إدانة امرئ بالخيانة أمرا في غاية الصعوبة ضمانا لئلا تُجَنَّ الحكومة وتسحق حريات
المواطنين وتحد من حرية التعبير من خلال إخافة الناس من الاتهام والمقاضاة. وهذه الشروط الصعبة أتاحت للمحامي جوليان كورنل ـ
الذي كان يدافع عن باوند ـ خيارات عديدة يقيم عليها دفاعه. كان بوسعه أن يزعم أن
عبقرية باوند الشعرية لا يمكن أن تحدها القوانين العادية، وهو زعم ما لأحد تقريبا
أن يقبل به، أو يزعم أن أفكار باوند التي أبداها في أحاديثه الإذاعية كانت صحيحة
وأن الخونة الحقيقيين هم كبار المسئولين في الحكومة الأمريكية الذين ركعوا أمام رجال
البنوك ويقاضي الحرب ـ وهو بدوره زعم كان فشله هو الأرجح. غير أنه كان سيلجأ إلى
خيار أفضل لو التزم بالحجة التي قدمها باوند نفسه إلى النائب العام سنة 1943: وهي
أنه في أحاديثه العلنية لم يزد على ممارسة حقه الدستوري المكفول في التعديل الأول.
وهذا قد يكون صحيحا بالفعل، ولكن محامي باوند وأصحابه خافوا أن يغامروا بأن تأتي
لجنة محلفين وطنية ـ تماشيا مع الحالة المزاجية السائدة في ذلك الوقت ـ وتراه
مذنبا فتحكم عليه بعقوبة حبس طويلة أو حتى بالإعدام. لذلك كان القرار بأن عدم السلامة
العقلية والعجز عن فهم إجراءات المحاكمة يمثلان أفضل دفاع ممكن عن باوند.
كان رأي إرنست همنجواي ـ ربما دعما
للدفع بجنون وتأكيده ـ أن باوند "ينبغي أن يوضع في مستشفى المجانين، وهو
يقدرها، وبوسعكم أن تضعوا أيديكم في أناشيده على مواضع يبدي فيها تقديره لها ...
إنه جدير بالعقاب والعار، ولكن ما يستحقه بالفعل هو السخرية".
وأضاف الشاعر وأمين مكتبة الكونجرس
أرتشيبولد مكليش ـ وهو ليس من أصدقاء باوند المقربين ـ أنه "من الواضح تماما
أن باوند العجوز المسكين شخص لطيف هادئ ... والخيانة جريمة أشرف وأشد جدية من أن
يوصم بها رجل جعل من نفسه أضحوكة، ولم يجن من وراء ذلك الكثير".
وقضى مستشار الدفاع كورنيل ـ الذي كان
قد التقى بباوند للمرة الأولى في العشرين من نوفمبر ـ وقتا بسيطا في إعداد دفاعه
الجنوني. فقد رجع الأطباء النفسيون الأربعة بتقرير موحد يقطعون فيه بأن باوند يعيش
في الوهم. وكانت خطوة النيابة التالية ـ وكان يمثلها إيسايا متالاك ـ هي عقد جلسة
عامة للحكم على الجنون أمام المحلفين. وعقدت الجلسة في الثالث عشر من فبراير سنة
1946، واستمعت اللجنة إلى شهادة د. وينفريد أوفرهولسر من هيئة الطب النفسي، الذي
قال إن باوند:
"... يتمتع بطموح مذهل ...
ويعتقد أنه المختار لإنقاذ دستور الولايات المتحدة لشعب الولايات المتحدة ...
ولديه إحساس بأن لديه مفتاح سلام العالم متمثلا في كتابات كونفشيوس ... يعتقد أنه
شخصيا كقائد لمجموعة من المثقفين قادر على وضع نظام للعالم ... وهو عقليا غير قادر
على الإفادة الواضحة أو المشاركة بصورة منطقية في الدفاع عن نفسه. أريد بعبارة
أخرى أن أقول إنه مجنون".
بعد الاستماع إلى هذه الشهادة وغيرها
من الأطباء النفسيين، خلصت لجنة المحلفين في ثلاث دقائق إلى أن باوند "غير
سليم العقل".
تأجلت القضية، وأمر القاضي باحتجاز
باوند في مستشفى سان إلزابث الفدرالية للأمراض العقلية في واشنطن. وأفلت باوند من
المحاكمة الفورية والعقوبة الرادعة المحتملة. ولكن مسألة ما إذا كان مذنبا أم
بريئا بقيت غير محسومة، وظل من الممكن محاكمته مرة أخرى إذا انتهت السلطات الطبية
المخولة إلى أنه استرد قدراته العقلية مكتملة.
ومنذ ذلك الحين وهناك تكهنات بأن
الأمر كله كان خدعة من باوند، فهو ربما كان شاذا وغريبا ونافر الطباع وشاعرا
بأهميته الشخصية لكنه لم يكن مريضا نفسيا. ولكن الحكومة أيضا كانت من جانبها غير
قادرة على إثبات أن ما فعله باوند يحقق الشروط الدستورية للخيانة خاصة وأنه كان
أبعد ما يكون عن الخيانة الواضحة بينديكت أرنولد. لم يكن لدى الحكومة الشاهدان
المطلوبان لإثبات جريمة الخيانة، وعلى الرغم من أن باوند اعترف بأنه أدلى بأحاديثه
الإذاعية، إلا أن الوثائق التي صودرت من بيته في رابالو كانت قد صودرت بدون أي إذن
بالتفتيش وهو أمر كان سيجعل أي قاض حصيف يعدل عن النظر فيها من الأساس.
بقي إزرا باوند في سان إليزابث منذ
بداية سنة 1946 وحتى إطلاق سراحه في 18 ابريل سنة 1958.
في البداية تم إنزاله في بناية
متهالكة قديمة أطلق عليها سام "بيت البراغيث" و"حفرة جهنم".
وكان منزله فيها في قاعة بلا شبابيك، ذات باب من الصلب السميك، وفتحات ينظر منها
الأطباء النفسيون ليلاحظوا المرضى. وحتى في بيئة كتلك، استطاع باوند بسهولة أن ينسجم
سواء مع الأطباء والممرضين أو مع زملائه المرضى. وذاع عنه قوله اللاذع "إنني
أنسجم بسهولة مع المجانين، أم الذين لا أحتملهم فهم الحمقى". وفي يونيو سنة
1946، تم تعيين دوروثي زوجته حارسة قانونية عليه. وصار مسموحا له باستقبال الزوار
على أن لا تطول مدة كل زيارة عن خمس عشرة دقيقة.
قدم محامي الدفاع جوليان كورنر في
يناير من عام 1947، وفي أوقات أخرى لاحقة، التماسات بالإفراج بهدف العرض على
القضاء والـ كفالة المشروطة، ولكنها لم تكن تلقى إلا الرفض. وحدث في ذلك الوقت أن
قام د. وينفرد أوفرهولسر مدير المستشفى بنقل باوند إلى تشستنت هول. وبقي باوند
هناك على مدار الاثنتي عشرة سنة التالية.
صارت لباوند غرفة مستقلة، وصار لا
يعاني ضغوطا مالية، وصار له من الوقت المخصص للكتابة والتدريب ما لا حدود له. في
مستشفى سان إلزابث، ترجم ثلاثمائة قصيدة صينية وأعمالا لكونفشيوس ومسرحيتين
لسوفوكليس، وشارك بمقالات في أكثر من عشرين إصدارا، وأضاف إلى كتابه الأكبر
"الأناشيد" خمسة وعشرين نشيدا. كما أجرى مراسلات شديدة النشاط مع دائرة
واسعة من الأشخاص، وكان يستقبل تيارا لا ينقطع من الزوار، بعضهم كانوا مجموعات من
الصبية في الخامسة عشرة من العمر. وبعض من زواره كانوا شخصيات مرموقة في مجالاتهم
[كالشاعر] روبرت لويل، والمؤرخ الفني كينيث كلارك، وتي إس إليوت، [والشاعرة]
ماريان مور، [والشاعر] تشارلز أولسن، [والشاعر] وليم كارلوس ويليامز.
وعلى الرغم من هذه الاتصالات الرفيعة،
بدأ الجمهور ينساه. ولكن باوند خلق ليكون في قلب الجدل. فقد حدث في نهاية 1945
ومطلع 1946 أن قررت دار نشر راندم هاوس أثناء إعدادها أنطولوجيا للشعر الأمريكي أن
تستبعد كل ما كتبه إزرا باوند بدعوى أنه كان فاشيا، وأن أعماله ـ وهذا صادم ـ لم
تكن جيدة بالقدر الكافي، فقد رأى بينيت سيرف من دار راندم هاوس أن الوطنية عند
باوند تغلب الشعرية. وأثار هذا الجدل تحزبات في كلا طرفيه وأثار أسئلة عن معنى أن
يكون المرء أمريكيا، وعن الوطنية، وعن الرقابة، وعن الديمقراطية. وفي النهاية قررت
الدار أن تدرج في الأنطولوجيا قليلا من قصائد باوند.
في عام 1948-1949، تورط باوند ـ بدون
جريرة منه ـ في جدال أكثر جدية. فقد صدرت
القصائد التي كتبها وهو رهن الاحتجاز في بيزا، ومن بينها النشيدان الرابع والسبعون
والرابع والثمانون، وفي يونيو من ذلك العام، دعا عدد من أصدقائه من بينهم تي إس
إليوت و[الشاعر] ألن تيت [والروائي والشاعر] كونراد أيكن، و[الكاتبة الروائية
والصحفية] كاثرين آن بورتر، و[الشاعر والأكاديمي] ثيودور سبنسر إلى منح باوند
تكريما شعريا وطنيا يتمثل في جائزة بولينجن التي كانت عبارة عن جائزة مالية قدرها
ألف دولار تمنحها مكتبة الكونجرس. وكانت لجنة من خمسة عشر من زملاء مكتبة الكونجرس
ـ وأغلبهم أصدقاء لباوند ـ هي التي تختار الفائز. ومن بين الخمسة عشرة، حصل باوند
على عشرة أصوات، وحصل صديقه وليم كارلوس ويليامز على صوتين، وصوت عضو واحد لمرشح
ثالث كان قد مات حديثا.
لم يصوت ضد منح باوند الجائزة إلا عضو
واحد: الشاعرة كاثرين جاريسون تشابان، وهي في الوقت نفسه زوجة النائب العام الذي
وجه إلى باوند تهمة الخيانة سنة 1943، أما الشاعر كارل شابيرو فما كان ليصوت لباوند
بسبب معاداته للسامية، فامتنع عن التصويت.
ولما علم باوند بفوزه بجائزة سنة 1949
قال: "لا تعليق من بيت البراغيث".
تسبب منح جائزة أساسية لشخص متهم
بالخيانة، ومشكوك في سلامته العقلية، في إثارة جدلا كبيرا في الوسط الأدبي
والسياسي. هاجم "روبرت هيلير" ـ الشاعر والأستاذ بجامعة هارفرد ورئيس
جمعية الشعر الأمريكية ـ اختيار اللجنة وهاجم باوند في مقالات نشرتها ساترداي رفيو
أوف ليترتشر وقال فيها إنه "لم ير يوما ما يستحق الإعجاب في باوند، ولا بيت
واحد"، واعتبر منح الجائزة له جزءا من مؤامرة هدفها القضاء على تقاليد الأدب
الأمريكي. وبالطبع كانت القضية كلها فرصة طيبة لهيلير كي يهاجم شعر الحداثيين من
أمثل تي إس إليوت ودبليو إتش أودن اللذين كانا منافسين له. كانت مقالات هيلير تجأر
ـ وفي بعض الأحيان تبكي ـ دعما لـ "كلاسيكيات الإنجليزية" ومن أجل
"إنقاذ بناتنا في المدارس والجامعات من قراءة تي إس إليوت".
وجاء الشاعر والروائي والناقد الأدبي
مالكوم كاولي برؤية ممنطقة للقضية. فخلص إلى أن مكتبة الكونجرس منحت الجائزة
لباوند لأسباب أدبية محضة وأنهم شعروا أن "كثيرا من كتاب الدرجة الثانية
حصلوا على جوائز مكافأة لهم على إعرابهم عن آرائهم"، وإن بقي يرى أن أناشيد
بيزا لباوند لم تكن "أرفع الإنجازات الأدبية في الشعر الأمريكي" في عام
1948، وأن إلقاء الضوء على الشاعر كانت له نتائج عكسية". وأضاف أنه "بعد
أن قام أبناء وطنه بإلقاء القبض عليه، تم إرساله إلى مستشفى عقلي بدون أن يحظى
بشرف المثول أمام الجمهور ... وتلك هي العقوبة القصوى لمثل هذه الجريمة
المشينة".
غير أنه لا أحد ينكر أن بعضا من شعر
باوند في أناشيد بيزا رائع وجليل، كهذا المقطع من النشيد الحادي والثمانين الذي لا
ينال من وضاءة قوته وجزالته أي جدل:
إن ما تحب لباق
وما عداه الزَبَد
إن ما تحب لباقٍ
وليس يسلبه أحد
إن ما تحب
هو إرثك الحق
دع عنك كبرك، ما كان رجلا الذي
خلق الشجاعة، أو خلق النظام، أو خلق الجمل
دع عنك كبرك
أقول دع عنك كبرك
وتعلم من العالم الأخضر كيف يكون
مكانك...
دع عنك كبرك
ما أدنأ كراهيتك
ما ألصقها بالزيف
دع عنك كبرك
ما ألصق الكبر بالدمار
فدع عنك كبرك
دع عنك كبرك
هل يبدو ذلك وكأنه ندم يبديه باوند
وتوبة؟ البعض فسره على هذا النحو، لكن آخرين يرون أن الشاعر ما كان يخاطب نفسه
بقدر ما كان يخاطب آسريه، أي حكومة الولايات المتحدة، وجيشها، ساخطا على ما لقيه
من سوء المعاملة.
امتدت الجلبة التي ثارت حول الجائزة
إلى الوسط السياسي فدعا جاكوب جافيتس السناتور عن ولاية نيويورك إلى فتح التحقيق
في كيفية اختيار باوند للجائزة. ثم نظرت اللجنة البرلمانية المشتركة الخاصة بمكتبة
الكونجرس في القضية، وبتوصية منها قرر الكونجرس أنه لا ينبغي لمكتبة الكونجرس أن
تمنح جوائز. وتولت هذه المهمة مكتبة جامعة ييل وصارت هي التي تمنح جائزة بولينجن
منذ عام 1950.
وشغل باوند الأخبار مرة أخرى بعد عام
1954 وحكم المحكمة العليا في قضية "براون ضد
مجلس التعليم في توبيكا" الذي أطاح بقوانين الولاية التعليمية القائمة
على "الفصل والمساواة" [بين نظم التعليم للبيض والسود، واعتبرها غير
دستورية]. هذا الحكم، ومحاولات الكونجرس لتمرير تشريع خاص بالحقوق المدنية، أحدث
موجة من المعارضة البيضاء في الجنوب، وعودة لعصابة كوكلوكس [العنصرية البيضاء التي
تستهدف السود]، وأعمال شغب وعنف وصلت إلى قتل السود واستهداف المؤسسات السوداء.
وكان من بين من تعرضوا للقتل الصبي "إيميت تيل" البالغ من العمر أربعة
عشر عاما والذي قتل لاجترائه بالكلام إلى سيدة بيضاء. كان "إيميت تيل"
ابنا لـ "لويس تيل" الذي كان ـ مثل باوند ـ حبيس قفص حديدي في بيزا،
والذي قام الجيش الأمريكي بإعدامه شنقا بعدما أدين بالاغتصاب والقتل. وباوند يذكره
في النشيد الرابع والسبعين من أناشيد بيزا:
... بالأمس شنقوا تيل
جزاء القتل والاغتصاب وجميع الإضافات
الأخرى ...
كشف الصحفيون معلومات تفيد بأن بعض أعلى
العنصريين البيض أصواتا من المتورطين في مقاومة القوانين السارية في ولاية تينيسي
كانوا أتباعا لباوند، وأنهم زاروه في مستشفى سان إلزابث، وراسلوه واستمرءوا
أفعالهم من نصائحه. كان من أهم الشخصيات في مقاومة قانون توحيد المدارس هو فردريك
جون كاسبر، أحد حواريي باوند، وكان خطيبا مفوها وسيما، يتناقض أسلوبه في الكلام
وذوقه في الثياب مع حقيقة أنه من نيوجرزي. كان كاسبر ـ مثل باوند ـ معاديا
للسامية. وبرغم أنه كان من قبل يكن المودة للسود، إلا أنه تحول إلى عنصري متعصب
يقسم على "حماية العرق الأبيض والدفاع عن نقائه". ولقد انتهى كاسبر إلى
السجن الفدرالي، لكنه لم يسر إلى زنزانته إلا وهو يضع تحت إبطه نسخة من
"كفاحي" لهتلر.
ارتباط باوند المشين بالمتطرفين لم
يساعد الذين كانوا يحاولون الإفراج عنه. والحق أن الشاعر لم يكن متلهفا على الخروج
من شرنقة سان إلزابث، فقد كان هو وزوجته دوروثي يثنيان المحامي جولين كورنل عن
التقدم باستئنافه، وكلما كان أحد الساعين إلى الإفراج عنه يشرع في الكلام عن
الموضوع كان باوند يسارع بتغييره. ولقد قال تي إس إليوت ـ أحد محاولي الإفراج عنه
ـ لابنته ماري باوند "إن أباك لا يريد الحرية وفقا لأية شروط ممكنة".
كانت هناك مشكلة أخرى تعوق الإفراج عن
باوند، وهي أن د. أوفرهوسلر كان لا بد أن يقدم لوزارة العدل تقريرا سنويا بحالة
باوند العقلية. فإن قال الطبيب إن المريض تعافى واسترد قدراته العقلية فهذا يعني
محاكمته بتهمة الخيانة، وإن شهد بأن باوند لا يزال مريضا عقليا لا يكون من الممكن
الإفراج عنه. وهكذا بقي الموقف جامدا على هذا النحو السخيف، في حين أن كثيرا من
الذين وجهت إليهم تهمة الخيانة وحوكموا، وكثيرا من المجرمين النازييين كانوا
أحرارا بالفعل.
في عام 1957، وفي حين كان باوند بعيدا
عن مركز الأضواء، استطاع [الشاعران] أركيبولد مكليش وروبرت فروست إقناع إدارة
أيزنهاور بضرورة حل المسألة، خاصة وأن باوند بلغ الثانية والسبعين من العمر وكان
من المرشحين لجائزة نوبل.
ووجد د. أوفرهولسر حلا مقبولا من جميع
الأطراف. فقد قال في شهادة أدلى بها تحت القسم، إن باوند مريض مرضا عقليا لا شفاء
له منه، لكنه لا يمثل خطرا، وإنه لا يستطيع أن يحدد موعدا يمكن فيه لباوند أن يكون
صالحا للمحاكمة. وبذلك لم يعد ثمة جدوى من الاحتفاظ به رهن الاعتقال في المستشفى،
وتحميل دافعي الضرائب الكثير من المال. ومن جانبها لم تعترض الحكومة على اقتراح
القاضي "بوليثا جيه لو" بإسقاط تهمة الخيانة في الثامن عشر من ابريل سنة
1958، وهو ما كان.
صار باوند حرا من جديد، ولكنه غير
قادر قانونيا على التصرف في شئونه، لاعتباره مصابا بمرض عقلي لا يرجى شفاؤه. ومع
ذلك، لم يترك مستشفى سان إلزابث على الفور، إذ كان من المخطط أن يجري علاجا
لأسنانه فقرر أن ينتظر إلى حين الانتهاء منه. وهكذا لم يخرج من المستشفى إلا في
السابع من مايو سنة 1958، وتم إغلاق ملفه بعبارة "الحالة عند الخروج: لم
تتحسن".
لم يترك باوند وزوجته الولايات
المتحدة على الفور، وإن كان مفهوما أنهما سيغادرانها. تريثا قليلا، حيث زارا
أصدقاء مشتركين، وقضيا وقتا في واينكوت بولاية بنسلفانيا وهي المدينة التي عاش
فيها باوند طفلا. ولم يحدث إلا في الثلاثين من يونيو سنة 1958، أن استقلت دوروثي
وإزرا وشابة اسمها "مارسيلا سبان" السفينة الملاحية الإيطالية كريستوفرو
كولمبو المتجهة من نيويورك إلى نابولي.
حينما توقفت السفينة في نابولي، كان
في انتظارها الصحفيون والمصورون. فأبهجهم باوند بالتحية الفاشية، ولما سأله صحفي عن
تاريخ خروجه من المستشفى قال "لم أخرج قط. فحينما تركت المستشفى، كنت لا أزال
في أمريكا، وأمريكا كلها مستشفى مجانين".
نشأت "مارسيلا جويس سبان"
في تكساس ودرست فيها. تعرفت على شعر باوند من خلال أحد أساتذتها، وكتبت إليه وهو
في مستشفى سان إلزابث، وطلبت مقابلته. ووافق باوند، فقامت بزيارته، ثم استمرت العلاقة
بالمراسلة. في سنة 1957، انتقلت سبان إلى واشنطن، وعملت مدرسة للغة الإنجليزية في
مدرسة مارجوري وبستر جونيور كولدج (التي أغلقت سنة 1974). وأتاح لها وجودها على
مقربة من المستشفى أن تزور باوند بانتظام، وكان الشاعر يوجه لها النصح فيما يتعلق
بالتدريس واختيار القصائد. ولما خرج باوند في مايو سنة 1958، استقالت هي من
وظيفتها وصاحبته في رحلته إلى إيطاليا سكرتيرة له. يقال إن باوند كان يحبها، ويقال
إنه تقدم للزواج منها، برغم أن دوروثي كانت لا تزال زوجته وبصحبته.
صارت لباوند في ذلك الوقت ثلاث نساء:
أولجا رودج، وزوجته دوروثي، ومارسيلا سبان. كان أثناء وجوده في الولايات المتحدة
يثني أولجا عن زيارته، فلم تزره في سان إلزابث إلا مرتين اثنتين سنتي 1952 و1955.
وفي الفترة من 1955 إلى 1959، تدهورت علاقتهما إلى حد أنهما ما كانا يتبادلان
الرسائل إلا لماما. كانت أولجا لا تزال تعيش بين كاسا 60 في رابالو و"العش
المخبوء" بفينسيا.
ما كاد باوند والمرأتان ـ دوروثي
ومارسيلا ـ يصلون نابولي حتى انطلقوا إلى الشمال ليستقروا في قلعة بروننبرج على
مقربة من ميرانو والحدود الإيطالية النمساوية، ضيوفا على ابنة باوند من أولجا
رودج. كانت ماري ابنة باوند قد تزوجت سنة 1946 من بوريس دي راتشفيتش أستاذ علم
المصريات الإيطالي الروسي. وفي عام 1955 قاما بشراء القلعة المتداعية المقامة في
القرن الثالث عشر، فعملا على ترميمها ثم اتخذا منها سكنا لهما.
صار زير النساء العجوز الآن تحت رحمة
أربع نساء: ابنته ماريا، وحفيدته باترشيا، وزوجته دوروثي، وصديقته مارسيلا.
والأربعة لم تنسجمن معا، ولكن دوروثي ـ بما لها من سيطرة على شئون باوند المالية ـ
كانت لها اليد العليا بصفة عامة. وقد علق باوند على هذا الوضع المزعج في النشيد
الثالث عشر بعد المائة:
الكبر، والغيرة، والاستحواذ
3 من آلام الجحيم
بحلول ديسمبر سنة 1959، اطمأنت دوروثي
إلى عودة مارسيلا إلى الولايات المتحدة، وحلت على باوند الكآبة وفقد الاهتمام
بالشعر، وبدأ يظن أن كل ما أنجزه في حياته عدم. ولما بدأ ينحل بصورة غير طبيعية ـ
وكان هناك اعتقاد بأنه بدأ يفقد الذاكرة ـ بدأ علاجه في صيف 1960 في عيادة على
مقربة من بولزانو. وهناك تحسن قليلا، ولكن صحته كانت تتداعى، وفي ربيع عام 1961
أصيب بتلوث البول. وفي عام 1962، قررت دوروثي أن تتركه، فلعلها شعرت أنها عاجزة عن
رعايته، أو لعلها لم تعد تقوى على احتماله. ولما ترك باوند ميرانو ورجع إلى أولجا
في رابالو، تركت بروننبرج وذهبت لتعيش مع ابنها عمر في لندن.
ظل باوند يعيش منذ 1962 إلى 1972 مع
أولجا، فكان يقضي الشتاء غالبا في رابالو والصيف في فينسيا. وبقي مزاجه متعكرا،
وبدأ يعتقد أن حياته لم تكن إلا سلسلة من الحماقات. ولقد قال للصحفية الإيطالية
جراتسيا ليفي "إنني أفسد كل ما تمسه يداي. إنني مخطئ طول الوقت ... طوال
حياتي كنت أعرف أنني لا أعرف أي شيء، نعم، لا أعرف أي شيء. وبذلك كانت الكلمات دائما
خواء من أي معنى". وفي أكتوبر سنة 1967 قال لـ "ألن جينسبرج" في
رابالو إن شعره "هراء ... وكتابتي غباء وجهل طول الوقت"، وقال له لاحقا
في فينسيا "... لقد اكتشفت بعد سبعين
عاما أنني لم أكن مجنونا، بل أبله. كان ينبغي أن أفعل ما هو أفضل".
كان مزاجه المتعكر هذا واضحا حتى في
مسودات نشيده الأخير الذي كان يكتبه:
فقدت مركزي
وأقاتل العالم.
تتصادم الأحلام
فتتناثر أشتاتا
حاولت أن أقيم الفردوس
على الأرض
في فينسيا، لم يكن أمام أولجا وباوند
إلا الرضا بأعداد لا حصر لها من الزوار الراغبين جميعا في رؤية الشاعر الغريب
ومحادثته.
ولكنه في السنوات القليلة الأخيرة من
حياته توقف عن الكلام إلا مع المقربين، وفي حالات الضرورة القصوى، وباتت انفجاراته
بين الحين والآخر بالكلمات المنطوقة تأتي في نبرة مهموسة. وعندما سئل في حوار نادر
عن السر في قلة كلامه قال "إنني لم ألج الصمت، إنما هو استولى عليّ".
عملت أولجا رودج حارسة شرسة على
خصوصية باوند، فحالت بينه وبين الزوار غير المرغوب فيهم، بأن كانت تطلب من الزائر
أن يلقي بيتا من شعر باوند، فإن عجز تطلب منه الرحيل. ولقد فوجئ زائر كان يتوقع
هذه المعاملة من أولجا حينما فتح له الباب إزرا باوند بنفسه مرتديا مئزر الحمام
والشبشب. ولما نطق الزائر أخيرا قال "كيف حالك يا مستر باوند؟" فقال له
"أُخرِّف". وتركه.
كان باوند يسافر بين الحين والآخر.
ففي عام 1962، ذهب إلى روما لحضور استعراض للفاشيين الجدد، مرتديا مثلهم الثياب السوداء،
وملتزما بمشية الإوزة الفاشية المعروفة بالخطوة الرومانية. ومرة أخرى حضر في باريس
عرض "نهاية اللعبة" لصمويل بيكيت، فلما رأى الشيخ الذي يعيش في المسرحية
بداخل علبة رفات لا يخرج رأسه منها إلا ليتناول بعض الطعام أو ليبكي قال لمن حوله "هذا
أنا".
في سنة 1965، وبرغم سوء حالته الصحية،
سافر إلى لندن لحضور جنازة إليوت، وإلى نيويورك سنة 1967 لحضور افتتاح معرض للنسخة
الأصلية من "الأرض الخراب" التي صححها لإليوت. ذهب أيضا لزيارة مدرسته
فلقي هناك استقبالا حافلا. وفي أواخر سنة 1972، رشحته كلية هاملتن لنيل وسام إمرسن
ثورو من الأكاديمية الأمركيية للفنون والعلوم فتجدد الجدل القديم حول مناصرته
للفاشية وعدائه للسامية فجاءت نتيجة التصويت في غير صالح باوند بثلاثة عشر صوتا
إلى تسعة.
في عيد ميلاده السابع والثمانين، أي
في الثلاثين من سبتمبر سنة 1972، كان باوند في غاية الاعتلال والضعف، ولكن عندما
جاء جندول الإسعاف [فنحن في فينسيا] ليقله إلى مستشفى فينسيا نزل السلم على قدميه.
وفي اليوم التالي، مات نائما، بينما تمسك أولجا يديه.
مضت جنازته رزينة، هادئة، لم يحضرها
غير الأقربين باستثناء زوجته دوروثي التي لم تستطع السفر من لندن إلى فينسيا. كان
هناك أربعة مجدفين في ثياب سوداء يقودون الجندول الحامل للتابوت إلى جزيرة مقابر
سان ميشيل، حيث ووري التراب في قسم البروتستنتيين على مقربة من المكان الذي سيوارى
فيه الشاعر الحاصل على نوبل في الأدب سنة 1987 جوزيف برودسكي، وغير بعيد من قسم
اليونان الأرثوذكس حيث قبر المؤلف الموسيقي إيجور سترافينسكي، وقبر صاحب فرقة الباليه الشهير سيرجي
دياجيليف.
ماتت دوروثي شكسبير باوند في لندن سنة
1973، أما أولجا فعاشت بعد وفاة باوند أربعة وعشرين عاما في بيتها بفينسيا إلى أن
رحلت في عام 1996 عن مائة عام وعام. ورثت كثيرا من أوراق باوند، ومراسلاته، وكتبه،
وصارت مدافعة نشطة عن سمعته الأدبية والشخصية، مشاركة في الحياة الثقافية
والاجتماعية في المدينة المائية. وأعربت غير مرة أنها تعتزم إنشاء مؤسسة لاحتضان
أوراق باوند وأعماله الفنية، لكنها لم تشرع قط في هذا. وفي عام 1986، عندما كانت
في الحادية والتسعين، بدأت تظهر عليها عوارض النسيان، وبدأ بعض من أصدقائها
المزعومين يستغلونها بإنشاء مؤسسة لباوند لم يكن لأولجا رأي يذكر فيها أو في
إدارتها، ولكنها نقلت للمؤسسة كلا من بيت فينسيا وجميع أوراق باوند في مقابل سبعة
آلاف دولار.
وحوش هذه الأسطورة ـ بحسب رؤية بعض
المراقبين ـ هم جين تيرنر ريلاندس وزوجها فيليبس رينالدس مدير "مجموعة بيجي
ججنهم" في فينسيا.
كانت جين قد صادقت أولجا رودج، وحازت
ثقتها، وصارت تساعدها بكل السبل الممكنة في حياتها اليومية. وكانت ماري دي
راشفيلتز تعيش على بعد ثلاث ساعات بالسيارة في تيرول فارتاحت إلى عناية آل رينالدس
الدقيقة لأمها.
زعمت جين رينالدس أن رودج التي كانت
في منتصف الثمانينيات من عمرها قد طلبت مساعدتها في إنشاء مؤسسة إزرا باوند لتكون
مؤسسة معفاة من الضرائب معنية بدعم دراسة أعمال باوند. استعانت جين ـ مشكورة ـ
بمحام من كليفلاند بأوهايو وتم إنشاء المؤسسة رسميا سنة 1986. وكان للمؤسسة ثلاثة
أمناء: أولجا رودج رئيسة، وجين رينالدس نائبة للرئيس، والمحامي سكرتيرا. وكانت القرارات
تتخذ بالأغلبية. وباعت رودج للمؤسسة أرشيف باوند ومنزل فينسيا بسبعة آلاف دولار.
عندما اكتشفت ماري ما فعلته أمها،
وأدركت أولجا الأبعاد الكاملة لأفعالها، حاولت أن تحل المؤسسة وتسترد المنزل
والأوراق. فقيل لها إذ ذاك إنه بموجب قوانين أوهايو، لا بد من موافقة أغلبية
الأمناء على حل المؤسسة، وإنها بحل المؤسسة لن تتمكن من استعادة البيت والأوراق
حيث سيتحتم نقلهما إلى مؤسسة أخرى معفاة من الضرائب.
وما كان من كلا الطرفين إلا أن استعان
بالمحامين واستعد لخوض القتال في المحكمة. في الوقت نفسه، تدخل أمناء مؤسسة ججنهم
في نيويورك برقة. كان فيليب رينالدس موظفا لديهم، وتخوفوا من الضجة الإعلامية التي
سوف تحدث والتي رأوا تورط جين ريلاندس فيها أمرا غير محبب في ضوء معاداة باوند
للسامية. فخيرت المؤسسة فيليب رينالدس بين خيارين: أن يواصل العمل مع مجموعة ججنهم
أو يسمح باستمرار علاقة جين مع مؤسسة باوند ويخسر منصب المدير الذي يشغله معهم.
وجاء حل الإشكال عندما قررت جامعة ييل
شراء الأرشيف من مؤسسة باوند على أن تدفع الثمن لكلا الطرفين. وبقيت الأرقام التي
حصل عليها كل طرف غير معلنة، وبقيت الوثائق الخاصة بمؤسسة إزرا باوند وعملية البيع
سرية حتى عام 2016. وتم حل المؤسسة بعيد إنهاء البيع.
ربما كان ذلك أفضل الحلول في ظل تلك
الظروف. فلقد كانت مكتبة بينيك للمخطوطات
والكتب النادرة في جامعة ييل قد تلقت بالفعل خمسة عشر صندوقا من أوراق باوند سنة
1966 من ماري راشفيلتز وعينت لها خبيرا كفئا في عالم باوند هو دونالد جالوب ليقوم
بتصنيفها وتحليلها. وقضى جالوب ـ الذي كان متقاعدا في ذلك الوقت ـ ما يربو على
ثلاثين عاما أمينا على مجموعة ييل للأدب الأمريكي وكان ـ بحسب ما يؤكد خلفه ـ "المؤرخ
الأهم فيما يتعلق بإليوت وإزرا باوند، والمتخصص في حسم تاريخ أول نشر لأي من
أعمالهما وفي توثيق إبداعهما ...".
ليس لأحد أن يتكهن بما كان يمكن أن
يئول إليه النزاع القانوني لو كان مقدرا له الاستمرار. فالحق أن باوند كتب وصية
سنة 1940، يترك بموجبها كل شيء لابنته ماري، ولكن الوصية لم توثق في المحكمة في
إيطاليا فبقيت عمليا وثيقة غير نافعة. ثم حدث أثناء وجوده في مستشفى سان إلزابث أن
فقد الأهلية القانونية فلم يتسن له أن يسجل وثيقة أخرى، خاصة وقد كانت زوجته
دوروثي هي الوصية القانونية عليه فما كانت لتصدق على توقيعه. ودخلت دوروثي وابنها
عمر أيضا في نزاع قانوني، فطعنا على وصية سنة 1940، وتمت تسوية هذا النزاع باقتسام
تركة باوند التي كانت تسيطر عليها ماري. وبذلك كان التقاضي مع جين رينالدس سيطول
ويتعقد.
شيء واحد استطاعت رودج أن تسترده من
وسط هذه الفوضى. ذلك هو "العش المخبوء" في فينسيا الذي بقيت تعيش فيه
إلى أن أرغمها العجز على الانتقال للعيش مع ابنتها في قلعة بروننبرج حيث وافاها
الأجل في الخامس عشر من مارس سنة 1996، ودفنت في سان ميشيل بجوار حبيبها إزرا.
وعلى شاهدة قبرها البسيطة نقشت أبيات من قصيدة "ابتهال ليلي" التي كتبها
باوند عند دخول القرن العشرين:
آه يا رب
أي خير فعلناه في ما مضى ونسينا
فأنزلت يا إله المياه علينا
كل هذا البهاء
كان باوند قد كتب أيضا في عام 1966
قصيدة أرادها أن تكون آخر ما تنتهي به الأناشيد، يثني فيها على أولجا، على شجاعتها
ووفائها وحنوها
أفعالها
أفعال أولجا
آيات الجمال
الباقيات.
كان اسمها الشجاعة
وكنا نكتبه أولجا.
ماري دي راشفيلتز لا تزال تعيش في
قلعتها في تيرول، وتدير مركز إزرا باوند للأدب، بمساعدة من ابنها د. سيجيفريد
وولتر دي راشفيلتز. ماري، وابنها سيجيفريد، وابنتها باترشيا دي راشفيلتز دي فروم،
جميعهم شعراء بطرائقهم الخاصة. عمر شكسبير باوند، ابن دوروثي، كان معلما وكاتبا،
مات في نيوجرزي في مارس سنة 2010.
لقد كانت تنتاب باوند المخاوف والظنون
بأن حياته لم تكن إلا سلسلة من الحماقات والأخطاء التي مضت به إلى قبره، ولو أن
لدى وارثيه مثل تلك المخاوف والظنون فهم يقبرونها في الصمت. ولكن الشعر نفسه،
الشعر الذي كتبه باوند، شق طريقه الواضح إلى الخلود.
كاتب المقال لوسيانو مانجيافيكو Luciano Mangiafico دبلوماسي أمريكي متقاعد يقوم حاليا
بإعداد كتاب عن أهم زوار إيطاليا
i] نقلا
عن ترجمة الدستور الأمريكي العربية المنشورة إلكترونيا في مكتبة حقوق الإنسان ـ
جامعة مينيسوتا ـ مع تعديل طفيف للغاية في الصياغة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق