ثورات الزمن الخطأ
آصف بيات
حدث في 2011، أن قوبلت الانتفاضات العربية بحفاوة، واعتبرت أحداثا من شأنها أن تغير العالم وتعيد تعريف الروح السياسية لزماننا. كان الانتشار المدهش لهذه الانتفاضات الجماهيرية، والذي سرعان ما أعقبته حركات "احتلال" [احتلال وول ستريت] قد بددت أي شك لدى المراقبين بأنهم يشهدون ظاهرة غير مسبوقة، "شيئا جديدا بالكلية"، "نهايته مفتوحة على كل الاحتمالات"، "حركة لا نعرف لها اسما"، ثورات ابتكرت للتحرر دربا جديدا. وبحسب ما قال "آلن بادو" فإن ميدان التحرير ـ بكل ما جرى فيه من أنشطة، من قتال إلى إقامة حواجز، إلى إقامة خيام، إلى نقاش، وطهو واعتناء بالمصابين ـ يشكل " حالة شيوعية" تعد بديلا للدولة اللبرالية الديمقراطية والاستبدادية، ولقد كان ذلك مفهوما إنسانيا شق طريقا جديدا في دنيا السياسة ـ كان ثورة حقيقية. أما سلافوي جيجيك، فوجد أن هذه الحوادث السياسية "الجديدة كليا"، الجارية بدون منظمات مهيمنة، أو زعامة كارزمية، أو هيكل حزبي، هي وحدها القادرة على أن تخلق ما أسماه بـ "سِحر التحرير". وبالنسبة لـ [مايكل] هاردت و[أنطونيو] نيجري [وهما مؤلفا كتاب Empire الشهير]، فقد كان الربيع العربي، ومظاهرت الإنديجاندو في أوربا، وحركة احتلال وول ستريت تعبيرا عن توق الحشود إلى "ديمقراطية حقيقية"، إلى نوع آخر من الحكم polity يحل محل التشكيلة اللبرالية البائسة الرثة التي أبلتها رأسمالية الشركات. هذه الحركات، اختصارا، كانت تمثل "ثورات عالمية جديدة".[i]
"جديدة"، هذا أمر لا شك فيه، ولكن ما الذي تقوله هذه "الجدة" عن طبيعة هذه الاضطرابات السياسية؟ أي قيمة تسبغها عليها؟ الحقيقة أنه في نفس الوقت الذي كانت تسري فيه هذه التقديرات الواثقة داخل الولايات المتحدة وأوربا، كان الأبطال العرب أنفسهم في روع مما سوف تئول إليه مصائر "ثوراتـ"ـهم، وفي فجيعة من أخطار قيام المحافظين بإعادة تجميع أنفسهم أو قيام الدخلاء free-riders بالركوب على "ثورتـ"هم. وبعد عامين من سقوط طغاة تونس ومصر واليمن، لم تشهد مؤسسات الدولة أو قواعد السلطة في النخب القديمة إلا القليل من التغيير الفعال. فالشرطة والجيش والقضاء والإعلام التابع للدولة والنخب الاقتصادية وشبكات عملاء الأحزاب الحاكمة القديمة، كلها بقيت دون أن تمس تقريبا. وواقع أن الحكم العسكري المؤقت في مصر قد حظر الإضراب وقدم اثني عشر ألف ناشطا للمحاكمة العسكرية إنما يشير إلى أن ثمة شيئا شاذا في طبيعة هذه "الثورات".
بمعنى من المعاني، كانت ردود الفعل المتناقضة هذه ـ ما بين المهللة والباكية ـ انعكاسا لمفارقة في طبيعة هذه "الثورات" العربية، لو أننا نفهم "الثورة" بوصفها ـ في حدها الأدنى ـ تحولا راديكاليا سريعا يطرأ على الدولة بقوة حركات شعبية من أسفل. إن هذا التناقض في الرأي إنما هو صدى لانفصال عميق بين بعدين أساسيين في الثورة: هما بعدا الحركة والتغيير. فلقد جاءت الروايات الاحتفائية وقد وقعت تحت سيطرة التركيز على "الثورة بوصفها حركة" ـ على المظاهر الدراماتيكية للتضامن والتضحية والإيثار والاشتراك في الهدف، أي على شيوعية communitas التحرير. والاهتمام هنا ينصب على تلك اللحظات الاستثنائية في أية تعبئة ثورية عندما تتحول المواقف والسلوكيات تحولا مفاجئا: إذ تتبدد الانقسامات الطائفية وتهيمن المساواة الجندرية، وتتلاشى الأنانية، وتبدي الطبقات الشعبية مقدرة لافتة على الابتكار في النشاط السياسي والتنظيم الذاتي واتخاذ القرار بصورة ديمقراطية. ولا شك أن هذه المشاهد البارزة جديرة بالمزيد من الإبراز والتوثيق، ولكن التركيز على "الثورة بوصفها حركة" غيَّب الطبيعة الشاذة لهذه "الثورات" في ضوء التغيير فما قيل إلا القليل عما يحدث في اليوم التالي لتخلي الطاغية. وقد يعمل هذا التركيز أيضا على وضع قناع دون مفارقات هذه الاضطرابات التي صاغتها [أي صاغت المفارقات فيما أفهم] أوقات سياسية جديدة تنحت فيها اليوتوبيات التحررية والرؤى الجليلة مخلية المكان لمشاريع تافهة وارتجالات اعتباطية وشبكات أفقية مفككة.
استراتيجيات التحول
هل نعيش إذن في زمن ثوري؟ بمعنى من المعاني هذا صحيح. فأزمة الديمقراطية اللبرالية الغربية وندرة وجود الحكم المسئول في أماكن كثيرة من العالم، فضلا عن ازدياد التفاوت وإحساس الحرمان الذي تشعر به فئات كثيرة من سكان العالم من بينها طبقات المتعلمين والمهاريين الخاضعين للانعطافة النيولبرالية قد أوجدت مأزقا سياسيا أكيدا وأبرزت الاحتياج إلى تغيير عنيف. ولقد أشار ديفيد هارفي قبل عقد من الزمن إلى هذه العلة في معرض قوله باحتياج العالم إلى البيان الشيوعي أكثر مما احتاج إليه في أي وقت مضى[ii]. ولكن عالما ـ كعالمنا هذا ـ قد يكون في حاجة إلى ثورات، ولكنه ليس بالضرورة عالما قادرا على توليدها، إن كان يفتقر إلى الوسائل والرؤى اللازمة للتحول الجذري. أي أن هذا الزمن ـ بمعنى آخر ـ قد لا يكون زمانا ثوريا بقدر ما هو زمان مفارقة حيث تقوض احتمال وقوع "الثورة بوصفها تغييرا" ـ بمعنى أن تكون تحولا سريعا راديكاليا للدولة ـ تقوضا عنيفا، في حين بقيت "الثورة بوصفها حركة" حاضرة ومتوفرة بصورة مبهرة. ولقد كانت الاضطرابات العربية تعبيرا شاذا عن هذا. وليس غريبا أن نرى منحنياتها ـ فيما عدا حالتي ليبيا وسوريا حيث حضر شكل الحروب الثورية التي شهدت تدخلا عسكريا أجنبي ـ مغايرة لأي مسار معروف من مسارات التغير السياسي: الإصلاح، العصيان المسلح، الانفجار الداخلي. بل هي فيما يبدو ذات طبيعة تخصها.
المسار الإصلاحي
تاريخيا، تتبع الحركات السياسية والاجتماعية استراتيجية إصلاحية فتنظم في العادة حملة دائمة للضغط على النظام القائم لتنفيذ إصلاحات باستخدام مؤسسات الدولة القائمة. ومن خلال الاعتماد على القوة الاجتماعية ـ أي على حشد الطبقات الشعبية ـ تقوم حركة المعراضة بإرغام النخبة السياسية على إصلاح قوانينها ومؤسساتها، وغالبا ما يتم ذلك من خلال اتفاقية يتم التفاوض عليها. ويحدث التغيير في إطار الترتيبات السياسية القائمة. ولقد كان الانتقال إلى الديمقراطية في بلاد مثل البرازيل والمكسيك في ثمانينيات القرن الماضي ينتمي إلى هذه الطبيعة. وتتبع قيادة الحركة الخضراء في إيران مثل هذا المسار الإصلاحي. وفي هذا المنحنى يمكن أن يتفاوت عمق الإصلاحات ومداها: فقد يبقى التغيير مصطنعا، ولكنه أيضا قد يكون أصيلا إن هو جاء على شكل إصلاحات ثقافية سياسية مؤسسية تشريعية تراكمية.
المسار التمردي
في المقابل، يقتضي المسار التمردي حركة ثورية تتأسس على مدار فترة زمنية ممتدة بعض الشيء وتتكون فيها زعامة معروفة وهيكل نظامي بالتوازي مع مخطط واضح لنظام سياسي جديد. وفي حين يوظف النظام القائم جهازي الشرطة والجيش في مقاومة أي تغيير، تبدأ الانشقاقات في زعزعة الكتلة الحاكمة. ويتقدم المعسكر الثوري، فيجتذب المنشقين، ويقوم بتشكيل حكومة ظل ويبني هيكلا بديلا للسلطة. ويمثل هذا تحديا لقدرة الدولة على حكم المنطقة التابعة لها، ويؤدي إلى وضع "ازدواج السلطة" بين النظام والمعارضة التي يكون لديها في العادة زعيم ذو كاريزما على غرار لينين، وماو، وكاسترو، والخوميني، و[البولندي ليتش] واليسا، و[التشيكي فاكلاف] هافل. وحيثما تنجح الثورة، يبلغ وضع ازدواج السلطة ذروته في معركة تمردية تنتهي باستيلاء المعسكر الثوري على السلطة بالقوة، فيزيح أجهزة السلطة القديمة ويؤسس لغيرها. وهنا يجري تغيير شامل للدولة، بمسئولين جدد وأيديولوجية جديدة وحالة حكم بديلة. والثورة الكوبية سنة 1959، أو ثورة ساندينستا Sandinista في نيكاراجوا والثورة الإيرانية وكلتاهما في عام 1979 تمثل المسار الثوري. ولقد واجه القذافي تمردا ثوريا بقيادة المجلس الوطني الانتقالي الذي تقدم بدعم الناتو من تحرير بنغازي إلى الاستيلاء على طرابلس.
انفجار من الداخل
وهناك احتمال ثالث: ذلك هو انفجار النظام من داخله. فقد يزداد الزخم الثوري من خلال الإضرابات وغيرها من أشكال العصيان المدني أو من خلال حرب ثورية تحيط رويدا رويدا بالعاصمة الأمر الذي يفضي في النهاية إلى أن ينفجر النظام من داخله، وينهار بقوة التفكك والانشقاق والخلل الكلي. وفي وقتها تسارع النخب البديلة إلى تشكيل أجهزة جديدة للسلطة، وغالبا ما يجري ذلك في ظروف اضطراب وبلبلة، فتستعين بأشخاص ليست لهم دراية تذكر بالعمل العام. ولقد انفجر نظام شاوشيسكو في رومانيا وسط العنف والفوضى السياسية في عام 1989، وإن خلفه نظام اقتصادي وسياسي شديد الاختلاف تأسس في ظل هيأة حديثة التأسيس هي جبهة الإنقاذ الوطني بزعامة National Salvation Front أيون إيليسكو Ion Iliescu. في ظل العصيان المسلح والانفجار الداخل، لا تعمل محاولات تغيير النظام السياسي من خلال مؤسسات الدولة القائمة بل من خارجها، في تناقض واضح مع المسار الإصلاحي.
الحركات الفريدة
لم يكن في "الثورات" المصرية والتونسية واليمنية من تماثل يذكر مع أي من هذه المسارات. وأول ما يسترعي الانتباه فيها من أوجه التفرد هو سرعتها. ففي مصر وتونس، حققت الانتفاضتان الشعبيتان القويتان بعض النتائج الخاطفة الملفتة: فلقد نجح التونسيون في غضون شهر والمصريون في مجرد ثمانية عشر يوما في إزاحة طاغيتين استبداديين طال بهما العهد في الحكم، وفي تفكيك عدد من المؤسسات المرتبطة بهما، ومن ضمنها حزباهما السياسيان، وأجهزتهما التشريعية وعدد من الوزارات، وتعهدت لنفسها بالالتزام بسياسات الإصلاح السياسي والدستوري. ولقد تحققت هذه المكتسبات بطريقة كانت مدنية سلمية (وفقا للمعايير النسبية) بقدر ما كانت سريعة. لكن هذه الانتصارات السريعة ـ خلافا لتمردات اليمن وليبيا، أو حتى البحرين وسوريا اللتين لا تزال التمردات جارية فيهما ـ لم تتح للمعارضة وقتا تبني فيه أجهزة الحكم الموازية، لو أن ذلك الأمر كان في نيتها من الأساس. بدلا من ذلك أرادت الثورتان من مؤسسات تابعة للنظام ـ كالجيش المصري على سبيل المثال ـ أن تنفذ بالنيابة عن الثورة إصلاحات جوهرية: تعدل الدستورـ تجري انتخابات، تضمن حرية الأحزاب السياسية وتقيم حكما ديمقراطيا ممأسسا. وهنا يكمن شذوذ أساسي في هذه الثورات [هذه المرة لم يضع آصف بيات الثورات بين مزدوجتين]: أنها حظيت برونق اجتماعي هائل، ولكنها كانت تفتقر إلى السلطة الإدارية، أنها حققت درجة لافتة من السيطرة، لكنها لم تحكم فعليا. وهكذا بقي النظامان القائمان دون مساس بهما تقريبا، ربما أضيفت مؤسسات جديدة وقليلة في الدولة أو وسائل حكم جديدة قد تكون تجسيدا لإرادة الثورة.
أما عن البنى الجديدة التي ظهرت، فلم يسيطر عليها الثوريون بلا الانتهازيون الذين ركبوا الثورة free-riders ، أو هي التيارات السياسية محكمة التنظيم التي بقيت قيادتها بعيدة إلى حد كبير عندما بدأ النضال ضد الطغاة.
ويبقى صحيحا أن ثورات وسط وشرق أوربا سنة 1989 كانت هي الأخرى سريعة بصورة مدهشة، وغير عنيفة إلى حد كبير: حيث لم تستغرق في ألمانيا الشرقية إلا عشرة أيام، وخمسة في رومانيا. وأهم من ذلك أنها ـ خلافا للحال في مصر واليمن وحتى في تونس ـ أثمرت عن تحولات كاملة في أنظمتها الاقتصادية والسياسية الوطنية. ولعلنا نفسر هذا بقولنا إن الاختلاف بين ما كان لدى الشعوب ـ نعني الدولة الشيوعية ذات الحزب الواحد والاقتصاد الموجه ـ وما كانت تريده ـ أي الديمقراطية اللبرالية واقتصاد السوق ـ بلغ من الجذرية أن تحتم على منحنى التغير أن يكون ثوريا، وأن يسهل اكتشاف ومقاومة أي محاولة لإصلاح مصطنع[iii]. وذلك كان مختلفا إلى حد بعيد عن النمط في مصر أو في تونس حيث كان تعريف مطالب "التغيير" و"الحرية" و"العدالة الاجتماعية" فضفاضا بدرجة تسمح حتى للثورة المضادة بالاستيلاء عليها. ومن هذا الجانب نرى شبها أكبر بين تجربتي مصر وتونس و"الثورة الوردية" في جورجيا 2003 أو "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا 2004-2005، ففي كلتا الحالتين أدت حركة شعبية قوية وهائلة إلى الإطاحة بمستبدين فاسدين. وفي هذه الحالات، يكون المنحنى ـ بالمعنى الدقيق للكلمة ـ إصلاحيا أكثر منه ثوري.
ومع ذلك، كان في الاضطرابات العربية جانب واعد، كان فيها دافع ثوري قوي جعلها أكثر تماديا وأطول ذراعا من مظاهرات جورجيا أو أوكرانيا. ففي مصر وتونس، كان رحيل الطاغيتين وأجهزتهما القمعية مفتتحا لفضاء حر يطالب فيه المواطنون ـ لا سيما ممن ينتمون إلى الطبقات الشعبية ـ باسترداد مجتمعاتهم وتأكيد ذواتهم، ومنطلقا لطاقة هائلة وإحساس لا مثيل له بالتجدد فتحول المجال العام تحولا واضحا. خرجت من الظل أحزاب سياسية محظورة وتأسست أحزاب جديدة، بلغت اثني عشر حزبا على الأقل في مصر، وأكثر من مائة في تونس. علا صوت المنظمات الاجتماعية وبدأت تظهر مبادرات شعبية لافتة. وبغياب التهديد بالقمع، أخذ العمال يناضلون من أجل حقوقهم، واستعرت المظاهرات الصناعية عير الرسمية. وفي تونس، اضطلعت النقابات المهنية القائمة بدور أكثر بروزا.
في مصر، دفع العمال باتجاه نقابات مستقلة جديدة، وأكد ائتلاف عمال ثورة 25 يناير على مبادئ الثورة: التغيير، والحرية، والعدالة الاجتماعية. وطالب صغار المزارعين بنقابات مستقلة. وبدأ سكان عشوائيات القاهرة في تأسيس منظماتهم المستقلة، وناضل الشباب من أجل تحديث مساكن العشوائيات بتبنيهم مشاريع مدنية واستعادتهم إحساسهم بالكرامة. وتوافد الطلبة على الشوارع يطالبون وزارة التعليم بتعديل مناهجهم. وتشكلت تجمعات ـ ففي مصر جبهة التحرير الثورية Tahrir Revolutionary Front وفي تونس الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة ـ للضغط على السلطات ما بعد الثورية من أجل القيام بإصلاحات ذات معنى. وهذه المستويات من الاحتشاد الشعبي ترتبط بالطبع بهذه الأوقات الاستثنائية. ولكن الإحساس الاستثنائي بالتحرر والدافع إلى تحقيق الذات والحلم بنظام اجتماعي عادل، أي الرغبة ـ اختصارا ـ في "كل شيء جديد"، وذلك هو المحدد لروح هذه الثورات. غير أنه فيما كانت تتحرك تلك الطبقات الاجتماعية متقدمة على نخبها، انكشف الشذوذ الكبير في هذه الثورات: ذلك هو التعارض بين الرغبة الثورية في "الجديد" واتباع المسار الإصلاحي المحتضن لـ "القديم".
صورات؟
كيف إذن نفهم منطق التمردات العربية بعد عامين من الإطاحة بمبارك وبن علي؟ لقد رأينا حتى الآن، أن نظامي الحكم الملكيين في الأردن والمغرب قد ارتأيا إجراء بعض الإصلاحات السياسية الثانوية، كأن يتيح تعديل دستوري لزعيم حزب الأغلبية في البرلمان أن يقوم بتشكيل الحكومة. وفي سوريا والبحرين، نرى أن المعارك الممتدة ضد سطوة النظامين قد دفعت الانتفاضتين إلى مسار العصيان المسلح الذي لا يزال نتاجه مجهولا. لقد أطاحت بالنظام الليبي حربٌ ثورية عنيفة. لكن الانتفاضات في مصر واليمن وتونس اتبعت منحنى خاصا لا يمكن اعتباره "ثوريا" أو "إصلاحيا". وبدلا من الخيارين يمكن أن يكون منطقيا الحديث عن صورات Refolutions: أي ثورات تدفع باتجاه الإصلاح من خلال مؤسسات الأنظمة القائمة[iv].
والصورات ـ بطبيعتها ـ تجسِّد واقعا ينطوي على مفارقة. فهي تمتاز من ناحية بأنها تضمن انتظام التحولات، وتتجنب العنف والتدمير والفوضى ـ وهي الشرور التي تزيد بصورة دراماتيكية من تكلفة التغيير ومن التطرف الثوري ومن "سيادة الإرهاب" كما تتيح اجتناب المحاكمات الشكلية. غير أن إمكانية إحداث تحول حقيقي من خلال إصلاحات تتم من داخل النظام واتفاقيات اجتماعية تبقى مرهونة بالحشد المستمر وبحذر التنظيمات الاجتماعية ـ كالطبقات الشعبية والاتحادات المدنية والنقابات المهنية والحركات الاجتماعية ـ وبممارسة ضغوط مستمرة. وإلا، فإن في الصورات خطرا ثابتا هو خطر الثورة المضادة ومقدرتها على تجميع نفسها، وذلك بالدرجة الساسية لأن الثورة لا تشق طريقها إلى مؤسسات سلطة الدولة المحورية. وإن المرء ليتخيل مصالح قوية أضيرت أضرارا بالغة من جراء الاضطرابات الشعبية، فيسعى أصحاب هذه المصالح سعيا حثيثا إلى إعادة تجميع أنفسهم والدعوة إلى التخريب واستخدام الدعاية السوداء. كما أن النخب المهزومة قد تقوم ببث الشك وإثارة "الفوضى" والقلاقل، لتبث في الناس الحنين إلى "أوقات الاستقرار" في ظل النظام السابق. وإذا بكبار المسئولين السابقين، ورجال الحزب الكبار، ورؤساء التحرير، ورجال الأعمال النافذين، ورجال الأمن والمخابرات المكلومين يقومون باختراق مؤسسات السلطة ويمارسون الدعاية السوداء لتحويل الدفة في اتجاه مصلحتهم.
لقد بقيت العناصر الأساسية في النظام القديم ـ في اليمن ـ دون أن تمس، برغم وجود إحساس متجدد بالحرية والاستقلال يَعِد بإصلاح سياسي لازم. وفي تونس تتخذ جماعات الحكم والمافيا الاقتصادية القديمة وضعية القتال وتعترض طريق التغيير الحقيقي بشبكة كثيفة من الفصائل السياسية والمنظمات الاقتصادية التي تتحكم فيها. وفي مصر كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتحمل مسئولية ممارسة واسعة النطاق للقمع والاعتقال على أعداد هائلة من الثوريين، وإغلاق أبواب منظمات معارضة مهمة. وإن خطر رجوع النظام السابق، أو مجرد الاكتفاء بالتغيير المصطنع، ليزداد جسامةً، مع تراجع الحمية الثورية واستئناف الحياة الطبيعية وفقدان الناس للحماس ـ وتلك حالة بدأت أعراضها في الظهور على المشهد السياسي العربي.
أوقات مختلفة
ما السبب الذي جعل الانتفاضات العربية ـ باستثناء ليبيا وسوريا ـ تتخذ هذا المثار الصَورِيّ؟ لماذا بقيت مؤسسات محورية تنتمي إلى النظام السابق على حالها، في حين تم تهميش القوى الثورية؟ يرجع السبب جزئيا إلى سرعة سقوط الطغاة التي أعطت انطباعا بأن الثورات انتهت وحققت أهدافها دون أن تكون قد أحدثت تحولا جوهريا في بنية السلطة. ولقد رأينا أن هذا "النصر" السريع لم يترك مجالا كبيرا لكي تقوم الحركات بتأسيس أجهزة بديلة للسلطة، حتى لو كانت لديها النية لذلك، وبهذا المعنى فإن هذه الثورات قامت بتحديد فرصها بنفسها. ولكن كان ثمة شيء آخر فاعل، وهو أن الثوريين بقوا خارج هياكل السلطة لأنهم لم يكونوا يخططون للاستيلاء على الدولة، وعندما أدركوا في مراحل متأخرة أنهم بحاجة إلى ذلك، وجدوا أنهم يفتقرون إلى الموارد السياسية ـ كالتنظيم والزعامة والرؤية الاستراتيجية ـ اللازمة للصراع على التحكم مع كل من النظام القديم والانتهازيين ممن ركبوا الثورة كالإخوان المسلمين أو السلفيين، الذين لعبوا دورا محدودا في الانتفاضة لكنهم كانوا جاهزين تنظيميا للاستيلاء على السلطة. وثمة اختلاف أساسي بين الانتفاضات العربية وسابقاتها في القرن العشرين وهو أنها وقعت في زمن أيديولوجي مختلف تماما.
لقد كانت هناك ـ حتى التسعينيات من القرن الماضي ـ ثلاثة اتجاهات أيديولوجية رئيسية تتخذ من "الثورة" استراتيجية للتغيير الجذري: القومية المعادية للاستعمار، والمركسية، والإسلاموية Islamism. انعكس الاتجاه الأول في أفكار [فرانز] فانون Fanon، وسوكارنو، ونهرو، وناصر، وهوتشي مينه التي كان تصورها للنظام الاجتماعي فيما بعد الاستقلال أن يكون شيئا جديدا، يمثل نفيا تاما للسيطرة الاقتصادية والسياسية التي كانت في يد النظام الكولنيالي القديم والبرجوازية الكومبرادورية. وعلى الرغم من أن وعودهم تجاوزت قدراتهم تجاوزا كبيرا، إلا أن الأنظمة ما بعد الكولنيالية استطاعت أن تحرز تقدما في التعليم والصحة والإصلاح الزراعي والتصنيع، من خلال إجراءات أكدتها اتفاقيات وطنية تنموية: كـ الميثاق في مصر (1962)، وإعلان أروشا (1967) وإرشادات مونجوزو (1971) في تنزانيا. وتتمثل منجزاتهم الكبرى في إقامة الدولة: الإدارة الوطنية، والبنية الأساسية، والتشكيل الطبقي. غير أن الحكومات الوطنية بدأت في فقدان شرعيتها بسبب إخفاقها في التعامل مع مشكلات أساسية كالملكية الجائرة وسوء توزيع الثروة. هذا وقد تحول الثوريون المناهضون للكولونيالية إلى إداريين في النظام ما بعد الكونيالي، وفشلوا إلى حد كبير في تحقيق وعودهم، وفي حالات كثيرة تحولت الحكومات الوطنية إلى أنظمة أوتوقراطية، أغرقتها الديون، ثم دُفعت دفعا إلى تبني برامج تعديل هيكلي نيولبرالية، أو أطاحت بها انقلابات عسكرية، أو قضت عليها المؤامرات الإمبريالية. ولعل الحركة الفلسطينية هي الحركية الوحيدة التي لم تزل تقاتل إلى اليوم من أجل الاستقلال الوطني.
كانت الماركسية ولا شك هي التيار الأشد هولا في حقبة الحرب الباردة. كما كان في الثورتين الفييتنامية والكوبية إلهام لجيل كامل من الراديكاليين: فقد أصبح تشي جيفارا وهوتشي مينه أيقونتين لا في آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، بل وفي أوساط الحركات الطلابية في الولايات المتحدة وباريس وروما وبرلين. وباتت حركات حرب العصابات رمزا للراديكالية في ستينيات القرن الماضي. فاجتاحت أفريقيا عقب اغتيال لومومبا واحتدام حركة الفصل العنصري المعروفة بالأبارتيد في جنوب أفريقيا. وفي سبعينيات القرن نفسه أطاحت موجة ثورات ماركسية لينينية بالحكم الكولنيالي في موزمبيق وأنجولا وغينيا بيساو وغيرها. وعلى الرغم من أن استراتيجية فوكو[v] التي روج لها جيفارا لم تثمر أكلها في أمريكا اللاتينية، فقد نشبت حركات عصيان مسلح في جرينادا ونيكاراجوا حتى نهاية عقد السبعينيات في الوقت الذي ظهر فيه "إل سلفادور" مرشحا آخر محتملا للتقدم الثوري. وجد الراديكاليون في أمركيا اللاتينية حليفا جديدا حينما أوحى لاهوت التحرير للكاثوليك العاديين بل ولبعض رجال الدين بالانضمام إلى النضال. وفي الشرق الأوسط، دفعت الجبهة القومية للتحرير البريطانيين إلى الخروج من عدن وأعلنت قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ولعبت العصابات المسلحة دورا هاما في إيران، وعُمان، والأراضي المحتلة في فلسطين. ولقد كان أثر هذه الحركات الثورية على المناخ الفكري في الغرب واضحا لا يمكن إنكاره، إذ ساعد في تفجير الثورة العالمية بين الشباب والطلبة والعمال والمثقفين سنة 1968. في عام 1974، أطاحت ثورة القرنفل بالدكتاتورية في البرتغال. وفي حين اتخذت بعض الأحزاب الشيوعية في أوربا والعالم النامي مسارا إصلاحيا متزايدا (الشيوعية الأوربية)، بقيت قوى لا بأس بها داخل التراث الماركسي اللينيني ملتزمة باستراتيجية الثورة.
لكن الصورة شهدت تحولا دراماتيكيا مع انهيار الكتلة السوفييتية. لقد كان مفهوم الثورة جزءا من نسيج الاشتراكية، فكان زوال "الاشتراكية القائمة فعليا" في أعقاب الحشد المناهض للشيوعية في أوربا الشرقية أثناء الحرب الباردة يعني فعليا نهاية "الثورة" وكذلك انتهاء فكرة قيادة الدولة للتنمية. وصار يستهان بالدولنة Étatisme بوصفها مصدرا للقمع وافتقارا للكفاءة وسبيلا إلى النيل من الاستقلال والمبادرات الفردية. وكان لذلك كله أثر فادح على فكرة الثورة بتركيزها [أي بتركيز الثورة] على سلطة الدولة التي باتت الآن تتطابق مع الاستبداد وإخفاقات الكتلة الشيوعية. ثم تقدمت النيولبرالية ابتداء من عام 1979-80 بفوز تاتشر وريجان، ثم توسعت لتصبح الأيديولوجية المهيمنة في أغلب أرجاء العالم، فكان لذلك دور مركزي في تغيير الخطاب كله. وبدلا من "الدولة" و"الثورة"، كثر الكلام بصورة هائلة عن المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني والمجال العام وما إلى ذلك، أي، في كلمة واحدة، الإصلاح. أصبح التغيير التدريجي هو الدرب الوحيد المقبول الذي يفضي إلى التحول الاجتماعي. وباتت الحكومات الغربية، هيئات المعونة، المنظمات غير الحكومية تروج لهذا الإنجيل الجديد في دأب. وكان اتساع قطاع المنظمات غير الحكومية في العالم العربي والنصف الجنوبي من الكوكب إشارة إلى تحول دراماتيكي من العمل الاجتماعي الذي تحركه مصالح جماعية إلى التركيز على دور الفرد في التنمية الذاتية في ظل المنافسة العالمية. وفي هذا العهد النيولبرالي تنحت روح المساواة في اللاهوت التحريري مفسحة المجال لصعود المسيحية الإنجيلية القائمة على روح المصلحة الفردية والتراكم.
أما الاتجاه الثالث فتمثل في الإسلاموية الثورية، وهي منافس أيديولوجي للماركسية بقي مع ذلك يحمل بصمة من خصمه العلماني. ابتداء من سبعينيات القرن العشرين، اعتمدت الحركات الإسلاموية المسلحة على أفكار "سيد قطب" في معركتها ضد الدول العلمانية في العالم الإسلامي، وقطب نفسه تعلم الكثير من الزعيم الإسلاموي الهندي أبو الأعلى المودودي الذي تأثر بدوره بالاستراتيجية التنظيمية والسياسية في الحزب الشيوعي الهندي. في عام 1964، أصدر قطب كتيبه "معالم على الطريق" الذي دعا فيه إلى طليعة مسلمة تستولي على الدولة الجاهلية jahili وتؤسس نظام إسلاميا حقيقيا، وذلك الكتيب أصبح المعادل الإسلاموي لـ "ما العمل؟" للينين. وأصبح يحدد الاستراتيجية للجماعات المسلحة من قبيل الجهاد، والجماعة الإسلامية، وحزب التحرير، ولاسكار جهاد. وانضم إلى المعسكر الإسلاموي يساريون سابقون ـ من أمثال عادل حسين ومصطفى محمود وطارق البشري ـ جالبين معهم أفكارا من التراث الماركسي اللينيني. كما قامت الثورة الإيرانية على كل من الأفكار اليسارية وقطب ـ فآية الله خامنئي المرشد الأعلى الحالي هو الذي ترجم معالم على الطريق. ولقد لعبت جماعة فدائيي خلق Fedayan-e Khalq الماركسية اللينينية وجماعة مجاهدي خلق Mojahedin-e-Khalq الإسلامية الماركسية دورا مهما في توجيه معارضة الشاه اتجاها راديكاليا. ولعل الأهم من ذلك أن المنظِّر الشهير علي شريعتي، في مرحلة دراسته لليساري الفرنسي "جورج جورفيتش" ـ قد تكلم بحماس عن "الثورة" بعبارات تحمل مزيجا من الماركسية والدينية داعيا إلى "المجتمع السماوي اللاطبقي"[vi]. كان مفهوم الثورة إذن مركزيا في النضال الإسلاموي لدى الشيعة ولدى السنة على السواء. ولقد كان هذا التيار يتعارض بوضوح مع استراتيجية الإسلامويين الانتخابيين كالإخوان المسلمين الذين كانوا يطمحون إلى إقامة سند اجتماعي قوي للاستيلاء على الدولة عبر الوسائل السلمية[vii].
لكن بحلول السنوات الأولى من القرن الحالي، فقد إيمان الإسلامويين المناضلين بالثورة دوافعه هو الآخر. ففي إيران على سبيل المثال، صار الخطاب المرتبط بالثورة الذي كان يوما ما موضع احتفاء، صار مرتبطا بالتدمير والتطرف، وذلك على أقل تقدير ابتداء من عام 1997 حينما فاز محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية. لقد كان ثمة أزمة تهيمن على الإسلاموية ـ بوصفها حركة ترى الإسلام نظاما شاملا لديه حلوله لجميع المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مع التأكيد على الواجبات أكثر من الحقوق. وبات المنشقون يحتجون بأن الدولة الإسلامية التي يدعمها المتشددون في إيران والجماعة الإسلامية في باكستان ولاسكار جهاد في إندونسيا وغيرها في غيرها من الأماكن، إنما هي تضر الإسلام والدولة معا. وشهدت نهاية تسعينيات القرن الماضي والعقد الماضي كله صعود ما أسميته بالاتجاهات ما بعد الإسلاموية. وهي اتجاهات دينية، وليست علمانية، لكنها تهدف إلى تجاوز السياسات الإسلاموية من خلال الترويج لمجتمع متدين ودولة علمانية، مازجة الدين بالحقوق، بدرجات متفاوتة. هذه التيارات ما بعد الإسلاموية من قبيل حزب البناء والتنمية في تركيا وحزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب تتبع مسارا إصلاحيا نحو إحداث التغيير السياسي والاجتماعي، وهي تعتمد خطابيا على أدبيات حقبة ما بعد الحرب الباردة: المجتمع المدني، المحاسبة، اللاعنف، التدرجية[viii].
آمال دنيا
وهكذا تكون الانتفاضات العربية قد وقعت في عهدٍ أدّى فيه انحدار أيديولوجيات أساسية في المعارضة ـ كالقومية المناهضة للكولونيالية والماركسية اللينينية، والإسلاموية ـ إلى انتزاع الشرعية عن مجرد فكرة "الثورة". وهو عهد يختلف تماما عن حقبة أواخر السبعينيات ـ على سبيل المثال ـ حينما كنت أنا وأصحابي في إيران نحلم بفكرة وإن بدت بعيدة المنال ونحن نتجول بالدراجات في أحياء شمالي طهران الراقية، فكنا نتصور كيف يمكن الاستيلاء على قصور الشاه ويعاد توزيعها. كنا نفكر في ثورة. أما في الشرق الأوسط في الألفية الجديدة، فلم يكن أحد تقريبا يتخيل التغيير بهذه الطريقة، وقليل من الثوريين العرب هم الذين وضعوا بالفعل استراتيجية لثورة، برغم أنهم قد يكونون حلموا بها. كانت الرغبة بصفة عامة رغبة في إصلاح، أو في تغيير معقول في سياق الترتيبات السياسية القائمة. في تونس، لم يكن هناك أي أحد تقريبا يفكر في "ثورة"، بل لقد كانت الإنتلجنسيا في واقع الأمر تعاني موتا سياسيا في ظل دولة بن علي البوليسية حسبما قال لي قائل[ix]. وفي مصر، كانت حركتا كفاية و6 ابريل، وبرغم أساليبهما المبتكرة ـ حركتين إصلاحيتين في جوهريهما، فلم تكن لدى أي منهما استراتيجية للإطاحة بالدولة. ويتردد أن بعض ناشطيهما تلقوا تدريبات في الولايات المتحدة أو قطر أو صربيا في مجالات مثل مراقبة الانتخابات والتظاهر اللاعنيف وبناء الشبكات. وعليه، فإن ما نتج من انتفاضات لم يكن ثورات بمعنى الكلمة بل "صورات" أي حركات ثورية ترجو إرغام الأنظمة القائمة على إصلاح أنفسها.
والحق أنه قد يلزم أو لا يلزم لوقوع الثورة أن يكون لدى الناس فكرة عن الثورة. بل إن وقوع الانتفاضات الجماهيرية أمر لا علاقة له ربما بأي تنظيرات حولها. فليس من الممكن التخطيط لها والترتيب، حتى لو خطط لها الشعب ورتب. الثورات تحدث "ببساطة". ولكن وجود فكرة عن الثورات أو غيابها يؤثر تأثيرا حاسما على نتائجها حينما تحدث. إن الطبيعة "الصورية" للانتفاضات العربية تعني ـ في أفضل الحالات ـ بقاءها غير منتهية ما بقيت مؤسسات النظام القديم ومصالحه وما بقي الانتهازيون الذين ركبوا الثورة كالإخوان المسلمين والسلفيين يحبطون المطالبات بالتغيير ذي المعنى. وهذا النتاج لا بد أن يكون نتاجا أليم الوقع على كل من كانوا يرجون مستقبلا عادلا وكريما.
وقد يكون ثمة عزاء قليل حينما نتذكر أن أغلب ثورات القرن العشرين العظيمة ـ في روسيا والصين وكوبا وإيران ـ التي نجحت في الإطاحة بأنظمة حكم أوتقراطية سرعان ما ابتكرت دولا لا تقل عن التي أطاحت بها استبدادا وقمعا. ومن الآثار الجانبية للتغيير الثوري الراديكالي ذلك التعطل السافر الذي يطرأ على النظام. فليبيا ـ التي أطيح فيها بالقذافي بصورة عنيفة ـ قد لا تكون موضع حسد من المناضلين في مصر أو تونس. فلقد أدى المزيج المكون من قسوة القذافي والمصالح الغربية المتعلقة بالنفط الليبي إلى إنتاج عصيان مسلح عنيف مدمر مدعوم من الناتو وهو الذي أنهى النظام الاستبدادي. ولا يزال منتظرا من الإدارة الجديدة أن تعمل على صعود حكم جديد شفاف احتوائي. لقد التزم المجلس الوطني الانتقالي السرية بشأن هوية أغلب أعضائه وبشأن آليات اتخاذ القرار فيه. ولقد تبين بسبب الانقسامات الداخلية بين الإسلاميين والعلمانيين، والافتقار إلى السلطة الفعالة على الجماعات المسلحة وضعف القدرات الإدارية أن المجلس الانتقالي غير مهيأ للحكم[x]. ولقد مرت البلد بعراقيل كبيرة ـ في الأمن، والإدارة وتدبير البنية الأساسية ـ قبل انتقال السلطة من المجلس الانتقالي إلى هيئة مدنية منتخبة.
وليست الغاية هي التهوين من أمر الثورات الراديكالية، خاصة وأن فيها جوانب إيجابية كثيرة ـ من أوضحها الإحساس بالتحرر، واحتمالات المفتوحة لمستقبل أفضل. ولكن من الضروري إبراز حقيقة أن الإطاحة الثورية بنظام قمعي لا تضمن وحدها قيام نظام أكثر عدلا واحتواء. فالثورات الأيديولوجية الراديكالية في حقيقة الأمر قد تحمل بداخلها بذور حكم استبدادي، إذ يمكن لتغيير الدولة والقضاء على أي معارض ألا يترك مجالا للتعددية والتنافس السياسي الواسع. في حين أن الصورات ـ في المقابل ـ قد تخلق بيئة أفضل لتعزيز الديمقراطية الانتخابية، وذلك لأنها بطبيعتها لا تكون قادرة على احتكار سلطة الدولة. كما أن نشوء مراكز سلطة جديدة ـ بما فيها مراكز سلطة للثورة المضادة ـ يمكن أن يحد من تغول النخب السياسية الجديدة. ومن ثم فليس من المرجح أن يتمكن الإخوان المسلمون في مصر وحزب النهضة في تونس من احتكار السلطة على غرار الخومينيين في إيران ما بعد الثورة، وذلك يرجع تحديدا إلى نطاق من المصالح القوية ومن بينها مصالح للنظام القديم، التي لا تزال باقية ونشطة وفعالة.
قد يكون جديرا بنا إذن أن نفكر في فهم آخر لـ "الثورة" في ضوء الخطوط التي وضعها "ريموند ويليامز" في "الثورة الطويلة" باعتبارها عملية "صعبة" بمعنى أنها معقدة ومتعددة الوجوه، و"كلية" بمعنى أنها لا تقتصر على التحول الاقتصادي بل تمتد إلى الاجتماعي والثقافي، و"إنسانية" تتعلق بأعمق بنى العلاقات والمشاعر[xi]. وعليه، فبدلا من استعجال النتائج أو الخوف على المطالب، قد ننظر إلى الانتفاضات العربية بوصفها ثورات طوالا قد تؤتي ثمارها في غضون عشر سنين أو خمس عشرة من خلال تأسيس سبل جديدة لتحقيق الأهداف، وطريقة جديدة للتفكير في السلطة. غير أن ما يعنينا ليس مجرد هموم اصطلاحية تتعلق بتعريف الثورات، بل المشكلات الصعبة المتعلقة ببنى السلطة والمصالح. وسواء رأى المرء أنها ثورات طوال، أو حركات تبدأ بتحويل راديكالي للدولة، يبقى السؤال الحاسم هو السؤال عما يضمن التحول الأساسي عن القديم والاستبدادي، والبدء في تغيير ديمقراطي ذي معنى، مع تجنب القهر والظلم والعنف. غير أن هناك شيئا واحد يبقى مؤكدا: الرحلة من القديم القمعي إلى الجديد التحرري لن تكون رحلة خالية من النضال الذي لا يتوقف والحشد الشعبي المتواصل، في المجالين العام والخاص. ذلك لأن الثورات الطوال في واقع الأمر هي التي ربما يلزم أن تبدأ عندما تنتهي الثورات القصار.
*آصف بيات Asef Bayat أستاذ دراسات التحول العالمي وأستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إيلينوي
نشرت المقالة في عدد مارس/ابريل 2013 من مجلة نيو ليفت رفيو ونشرت الترجمة في حلقتين في جريدة عمان، السبت الماضي، واليوم
[i] كيث خان
هاريس Keith Kahn-Harris ، "تسمية الحركة Naming the Movement " أوبن ديمقراسي، 22 يونيو 2011. آلن بادو Alain Badiou ،"تونس ومصر: المدى العالمي
للانتفاضات الشعبية Tunisia, Egypt: The Universal Reach of Popular Uprisings’" متح عبر هذا الرابط www.lacan.com، مايكل هاردت Michael Hardt وأنطونيو نيجري Antonio Negri ، "العرب رواد الديمقراطية
الجدد" Arabs are democracy’s new
pioneers ،
الجارديان في 24 فبراير 2011، بول ميسون
Paul Mason ،
لماذا تنطلق في كل مكان: الثورات الكونية الجديدة
Why It’s Kicking Off Everywhere: The New Global Revolutions ، لندن 2012 ص 65
[iii] في الحالة الألمانية، كان من السهل على مؤسسات
دولة جمهورية ألمانيا الديمقراطية [ألمانيا الشرقية] أن تذوب داخل الوظائف
الحكومية في جمهورية ألمانيا الفدرالية [ألمانيا الغربية]
[iv] يلاحظ أن الكاتب استبدل بحرف
الـ v
في كلمة revolution أي ثورة حرف الـ F من كلمة reform أي إصلاح وهو ما حاولت الترجمة
محاكاته باستبدال صاد الإصلاح بثاء الثورة ـ المترجم
مصطلح "صورة" refolution سكهتيموثي جارتون آش في يونيو سنة
1989 وصفا للجولات الأولى من الإصلاح السياسي في بولندا والمجر، نتيجة للمفاوضات
بين السلطات الشيوعية وزعامات الحركات الشعبية: انظر مقال آش بعنوان ‘Refolution, the
Springtime of Two Nations’, "الصورة، ربيع
أمتين" المنشور في نيويورك رفيو أوف
بوكس في 15 يونيو 1989، ولا يخفى أنني أستخدم المصطلح هنا على نحو مختلف.
[v] نظرية foco فوكو للثورة من خلال حرب
العصابات، وتعرب أيضا بالفوكوية focalism هي
نظرية صاغها المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه مستلهما فيها بالدرجة الساسية تجارب
المناضل الماركسي تشي جيفارا أثناء الثورة الكوبية. ويكبديا ـ المترجم
[vi] انظر لآصف بيات، "شريعتي وماركس: نقد النقد
الإسلاموي للماركسية، مجلة ألف العدد العاشر 1990. Shariati and Marx: A
Critique of an “Islamic” Critique of Marxism
[vii] من المثير أن القاعدة ـ وهي أعنف الجماعات
الجهادية، قد بقيت غير ثورية في جوهرها، بسبب تشكيلها متعدد الجنسيات وأهدافها
الغائمة المتمثلة في "إنقاذ الإسلام" و"محاربة الغرب" وفكرة
الجهاد بوصفه غاية في ذاته. انظر فيصل ديفجي Faisal Devji ، آفاق الجهاد
Landscapes of Jihad ،
إيثاكا 2005.
[viii] آصف بيات "ما بعد
الإسلاموية: وجوه الإسلام السياسي المتغيرة
Post-Islamism: The Changing Faces of Political Islam
" نيويورك 2013
[x] رانج علاء الدين Ranj Alaaldin "ليبيا،: تحديد
المستقبل Libya: Defining its Future " في كتاب توبي دودج Toby Dodge محررا "ما بعد الربيع العربي: تحول السلطة
في الشرق الأوسط؟" After the Arab
Spring: Power Shift in the Middle East?
لندن 2012
[xi] أنطوني بارنيت Anthony Barnett ، ""نعيش زمنا ثوريا، لكن ما معنى هذا؟" We Live in
Revolutionary Times, But What Does This Mean?
أوبن ديموقراسي 16 ديسمبر 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق