عندما تستخدم النقد،
هل تنفق أكثر أم أقل؟
ما
تعلمته من شهرين عشت فيهما بلا نقود
سيث ستيفنسن
انتهى كل شيء قبل أيام قليلة، عنمدا
سحبت مائة وعشرين دولارا من آلة صرف في آخر الشارع الذي أقيم فيه. تلك العملية
البسيطة كانت نقطة النهاية لشهرين عشتهما يوما بعد يوم بلا نقود على الإطلاق. وضعت
ورقة بعشرين دولار على الطاولة، طلبت زجاجة صودا ثمنها دولار ونصف دولار ـ لاحظوا
أن الحد الأدنى للشراء ببطاقة الائتمان هو خمس دولارات ـ ومضيت بعيدا عن الطاولة بحزمة
من الأوراق النقدية وعملتان معدنيتين كل منهما بربع دولار أخذتا تشخللان بداخل جيبي.
أعترف أن الحياة صارت أسهل منذ ذلك الحين. صار
بوسعي بسهولة أن أدخل الحانة الألمانية القريبة من بيتي والتي لا تتعامل إلا
"نقدا فقط". صرت ببساطة أتقاسم الدفع أنا وأصدقائي، ولأول مرة منذ شهرين
لا أكون مصدر إزعاج لهم.
لقد سبق لي أن كتبت عن اشتياقي إلى أن
أشعر مجددا بملمس النقد في يدي وبين أناملي. ولكنني بعد فترة وجيزة من الفرحة التي
انتباتني فور أن جذبت تلك الورقات الخضراء المجعدة من آلة صرف النقد، فقدت
الإثارة. وعدت مرة أخرى أتذكر كم كنت أكره الفكة الصغيرة، من العملات المعدنية
البسيطة بالذات ـ وهي التي بالمناسبة تتكلف ضعف قيمتها الحقيقية. (لا شك أنني أجد
في نفسي فرحة حقيقية بتلك الدولارات المعدنية الكبيرة ذهبية اللون التي نادرا ما
يصادفها المرء، مثلما أجد في نفسي فرحة أكيدة بالجنيهات المعدنية الثقيلة
المستخدمة في بريطانيا. ففي هذه العملات المعدنية الكبيرة عراقة وثقل ولها أيضا
قوة شرائية. أشعر حينما أستعملها أنني في القرن التاسع عشر، خاصة حينما ألقي بعضها
على طاولة رخامية في حانة عتيقة).
أفواه
عملاقة
لو أن هناك شيئا واحدا تعلمته من خبرتي
على مدار الشهرين السابقين، فهو أننا كمجتمع على بعد ميلليمترات من أن نكون مجتمعا
يعيش بلا نقد على الإطلاق. أعتقد أننا سوف نصل إلى هذه المرحلة في غضون ما بين خمس
سنوات وعشر، سنتعلم كيف ننفح الإكراميات لعمال الفنادق، بأن نشير ـ على سبيل
المثال ـ بهواتفنا المحمولة إلى شاراتهم أو إلى شيء معين معلق لهذا الغرض على
صدورهم. سيكون لدى جميع البشر ـ باستثناء أفقر الناس في الدول المتقدمة ـ هواتف
محمولة وهذه الهواتف المحمولة سوف توفر طرقا لانهائية لتبادل المال بين الأفراد.
صحيح، أن الشركات العملاقة سوف تقضم
أنصبة كبيرة من هذه التحويلات، وهذا يثير التقزز. لكن بوسعنا أن نرجو أن يؤدي
ازدياد طلب المستهلكين على التقنيات اللانقدية إلى تخفيض أسعار أدوات التحويل
المالي. لكن، تأملوا في المقابل، أن السحب من آلة صرف النقد القريبة من بيتي يتكلف
دولارا ونصف دولار، وأن تكلفة السحب من آلة صرف النقد في البنك تصل إلى دولارين.
طبعا من المؤكد أنني كنت أقدر أن أسير لنحو اثنتي عشرة دقيقة فأصل إلى آلة صرف
النقد المجانية، ولكن لم يكن عندي وقت. (ترفقوا بي يا مشجعي الاتحاد الائتماني ويا
مشجعاته. أعرف أنكم محقون، ينبغي أن أغير بطاقتي. وسوف أفعل هذا يوما ما. لكنها
مشكلة أيضا، فسوف ينبغي عليّ لو فعلت هذا أن أقوم بتغيير جميع بياناتي الإلكترونية
الثابتة منذ فترة).
هناك شيء واحد فقط لن أفتقده إذا تحول
العالم إلى عالم لانقدي، ذلك هو إغراء التهرب الضريب. لقد حدث قبل فترة أن استعنت
بنَقَّاش ليقوم بطلاء جدران شقتي، فما كاد العمل ينتهي حتى وجدته مصرا على أن أدفع
له نقدا مشيرا إلى أن "الضرائب وجهت له ضربة قاسية السنة السابقة".
فتورطت معه في سرقة "العم سام"، بمجرد موافقتي على الدفع له نقدا، وذلك
يشعر المرء أنه يخون الوطن!
التجربة
السابقة
سبقني ديفيد وولمان مؤلف كتاب
"نهاية النقود" إلى تنفيذ هذه التجربة، وزاد عليَّ أيضا بأنه نفذها لمدة
سنة كاملة عاشها بلا نقد على الإطلاق. وقد اتصلت به لكي نقارن بين ملاحظاتي
وملاحظاته. يقول إنه كان يواجه بصفة يومية نفس المشاجرات السخيفة التي صادفتها
فأثارت غضبي مرارا. لم يكن يستطيع أن يشتري أي شيء من سوق المزارعين. كان يواجه
مشكلات في الدفع لجليسة الأطفال (التي لم تستطع أن تقنع أباها بأن تفتح حسابا
إلكترونيا في موقع بايبال PayPal). كان يلف ويدور بسيارته بحثا عن مواقف
تقبل الدفع بالبطاقة الائتمانية.
ولكنه تعلم أكثر ما تعلمه حقا حينما
سافر إلى الهند. يقول "ببساطة شديدة، كانت الحياة في الهند بلا نقد مسستحيلة.
اللهم إلا لو استأجرت ليموزين من المطار، ثم لم أغادر بعد ذلك غرفتي في
الفندق". ولكن وضعا كهذا قد يتغير بسرعة شديدة. فلو كانت عربات بيع الأطعمة
في بروكلين تستخدم البطاقات الإلكترونية اليوم. فغدا تستخدمها السيارات العامة في
مومباي.
التجربة
العكسية
ولكي يبين لنا وولمان كيف أوغلنا في
طريق اللانقد في العالم المتقدم، يتخيل التجربة العكسية: أن يعيش سنة كاملة لا
يستخدم فيها إلا النقد، دون أن يستخدم بطاقات الائتمان، أو الشيكات، أو الدفع
الإلكتروني. يقول "فليحاول شخص أن يدفع أقساط بيته نقدا وجميع فواتيره كل
شهر. ذلك سيلقي ضوءا على كمية المتاعب التي يتسبب فيها النقد، وعلى تكلفته
الباهظة. إنه يهدر الوقت بلا رحمة".
لكن على الرغم من كل ما يتسبب فيه من
إزعاجات، لا يزال النقد يحظى بجيش ممن يدافعون عنه. يقول وولمان "إننا
اندفعنا إلى أقصى حدود تجربتينا. ولكن عندما يحين الوقت لتنفيذ الخطوات الأخيرة
والنهائية فستظهر الممانعة الحقيقية. ذلك لأن الناس مرتبطون عاطفيا بهذه الأوراق
وهذه القطع المعدنية الصغيرة".
هناك سؤال واجهته كثيرا أثناء فترة
حياتي اللانقدية، هذا السؤال هو: هل تغيرت عاداتك في الإنفاق؟ يحلف بعض الناس ألا
ينفقوا إلا نقدا، لأن الإنفاق النقدي "أكثر إيلاما" من الإنفاق بالبطاقة
الائتمانية الذي لا يقتضي أكثر من تمرير البطاقة في الجهاز المخصص. (يقول ديفيد
وولمان إن ذلك ما يطلق عليه علماء الاقتصاد "أثر الشكل"). ولكن الأكثر
منطقية من ذلك هو أن يوجد من الناس من يتجنبون الإنفاق بالبطاقات الائتمانية تجنبا
لمزيد من الديون.
نقود
لا تطير
أما أنا فكانت تجربتي في الإنفاق مناقضة
لهذا. فهذه الدولارات العشرون تبدو كما لو كانت تطير من تلقاء نفسها عندما أخرج من
البيت إلى المدينة، في حين أن البطاقة الائتمانية وضرورة التوقيع على كل عنصر
أشتريه يذكرني بأن لدي التزامات مالية لا ينبغي أن أعبث بها. كما أن بوسعي أيضا أن
أتعقب بدقة مسار إنفاقي عندما أستخدم البطاقة الائتمانية، بل إنني أستطيع تنزيل
هذه المعلومات من بعض المواقع وأضعها في برامج معينة تعينني على تحليل وضبط إنفاقي
لنقودي. أما النقد فلا يوفر مثل السجل المفيد. (وليتنا لا ننسى أن مدينون للبطاقات
الائتمانية. فأنا شخصيا أشتري هدايا الكريسماس السنوية بما أحصل عليه من نقاط من
جراء استخدامي لبطاقتي).
عموما، في الوقت الراهن، انا أشعر
بالسعادة لعودة النقود إلى جيبي، وإلى حياتي، فذلك يجعل من روتيني اليوم أسهل
بكثير. ولكنني لن أبكي على النقد حينما يولي زمانه. ولا أعتقد أنكم أيضا سوف
تبكونه.
مجلة سليت
نشر في جريدة عمان بتاريخ 1 ابريل 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق